الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

الخيانة والخطيئة في رواية «هي والراهب» للسوري محمد الدعفيس مقالتي في القدس العربي

http://www.alquds.co.uk/?p=640556

لخيانة والخطيئة في رواية «هي والراهب» للسوري محمد الدعفيس
Dec 06, 2016

عمان ـ موسى إبراهيم أبو رياش: «هي والراهب» رواية للسوري محمد تركي الدعفيس (دار مدارك للنشر، دبي 2016، 169 صفحة)، تتناول حكاية سراب الطالبة الجامعية، التي نشأت يتيمة فقيرة محرومة من أشياء كثيرة. تأسرها روايات الكاتب أحمد الصابر، الذي تربطه بوالدتها صلة قرابة، فتهيم مع مغامراته النسائية المتخيلة في رواياته، وتنجذب إليه وهو الكهل في عقده الخامس، بحثا عن أبوة فقدتها صغيرة، ومغامرة حية تعيشها معه كبطلة كما كانت تقرأها عن غيرها من الجميلات: «حين أقرأ إحدى رواياتك ارتدي ثوب البطلة، قفازيها، حذاءها.. أسرّح شعري مثلها، أربط شالا على عنقي كما تفعل».
اعتزل أحمد الصابر الحياة بعد وفاة زوجته ليلى مريضة، واكتفى بالعيش مع شخصيات رواياته يحركهم ويحاورهم ويستنطقهم، بالإضافة إلى صديقه الوحيد طبيب العيون عامر، الذي يدعوه للخروج من عزلته، فيفلسف عزلته قائلا: «أكسر أطواق العزلة كما ترونها أو تصفونها أنتم بالعوالم التي أخلقها على الورق، أصادقُ شخصيات أعمالي، أحادثها، أجادلها، أختصم معها أحيانا، أهملها أخرى، أرسم مصائرها، أقودها إلى النهايات التي أريد، أحمّلها ما أعتزم قوله، أرى العالم الذي تعيشونه أنتم من خلالها هي».
تنجح سراب عن طريق البريد الإلكتروني في إخراج أحمد الصابر من عزلته ورتابة حياته التي يصفها في رسالته الإلكترونية لها: «لا أملك سوى الوقت الممض، لستُ نمطيا في طقوس حياتي، لا شيء بعينه يشغلني، لا أترقب مشارف الفجر لأصحو، ولا أهجع حين تغفو عيون المساء، أنام فقط حين تنهار مقاومتي وأعجز عن السهر، وأصحو فقط حين أضجر من فراشي، هكذا أنا، ألوك هواجسي بلا مواعيد، ولا مقدمات.. أكره الساعة، أنفر من صوت عقاربها التي تمارس مللا رتيبا بإيقاع متكرر، كأنه صفير ريح في مقبرة نائية». يجد أحمد الصابر في سراب مخرجا لطيفا مغريا مما هو فيه، على الرغم من فارق السن، فأغدق عليها الحب والحنان، ووهبها الهدايا الكثيرة كتعويض لحرمانها التي كانت تشكو منه كثيرا. ومع أنه صارحها أنه عقيم، وأنه لن يستطيع أن يحقق لها حلمها بطفل أشقر، إلا أنها تتمسك به مكتفية بحبه، وأنها لا تريد طفلا إلا إذا كان منه. وفي خضم هذه العلاقة المفتوحة تعرفت على الراهب الجذاب لوقا، الذي فتن كثيرا من النساء، فانجذبت إليه، لتثبت لنفسها قدرتها على الفوز بالرجال وامتلاكهم، فهي تحب أصحاب التجارب الذي يحفظون أسرارها: «شعرت بأن جاذبيته تطغى عليها، وتشدها إليه أكثر، ربما كان الرجال الناضجون ذوو التجارب يثيرون شهيتها.

ان شيءٌ ما داخلها يغريها بالرجال ذوي التجربة.. الرجال الذين عرفوا أكثر من أنثى.. كانت تشعر أن فوزها بأحدهم بمثابة انتصار شهي يؤكد تفوقها على الأخريات اللواتي لم يعانين مثلها، ولم يسحق الفقر أحلامهن، كان انتزاعها رجلا منهن يشبع غرورها، ويشعرها بالرضا، فتنتشي طربا أنها هزمتهن، رغم أنها لا تمتلك مثل أسلحتهن». فوجدها الراهب فرصة ليتعرف طعم الحب مع فتاة مسلمة، فهي ستكون تجربة جديدة مثيرة، وعلى الرغم من تبعاتها المستقبلية المتوقعة، إلا أن إغراء التجربة، واندفاع سراب وكسرها كل الحواجز أوقعاه في المحظور دينا وعرفا. ولما افتضح أمره، ربما بتخطيط من روزالين خادمة الدير التي كانت ترعاه وتدافع عنه بشراسة، هرب من المدينة إلى دير ناء في الصحراء، وتسبب في فتنة طائفية قطعت أوصال العلاقات بين الجيران والأصدقاء، وأفسدت تاريخا من المحبة والوئام والانسجام. استعذبت سراب طعم الخيانة، فقد كانت تخون الرجلين كلا مع الآخر، وربما كان هذا يشعرها بالزهو أن تستحوذ على رجلين كهلين مشهورين محبوبين، ولما انكشف سرها مع الراهب طلبت من أحمد أن يسامحها وأن يبقوا أصدقاء بعد أن رفض عرض الزواج منها. وخوفا على حياتها كان لا بد أن تسافر، ولجأت الأم إلى أحمد ليساعدها على نفقات سفر ابنتها وهي تجهل العلاقة بينهما، فسارع بمنحها ما تريد، وسافرت سراب، وركبت البحر حيث لقت حتفها. هربت من الموت فوجدته في انتظارها. نهاية سراب، كانت مفجعة وقاسية، وهي بالتأكيد مقصودة، مع أنه كان بالإمكان اللجوء إلى نهايات أخف وطأة، ولكن الطيش والتهور والجرأة الكبيرة، وعدم تبصر العواقب يُردي المرء ويوقعه في المهالك، فللمجتمع قوانينه التي ينبغي عدم التعامي عنها، وإن كان لا بد فبحكمة وروية وحساب للعواقب.
سراب هي الشخصية المحورية في الرواية، وقد كانت بالفعل مجرد سراب خادع للجميع، فقد عاشت في سراب من وهم الانتصار والامتلاك، وانتهت حياتها كأن لم تكن. تسخر الرواية من تعامل المجتمع مع العلاقات بين الرجل والمرأة، فإذا كانت العلاقة بين رجل وامرأة من الدين نفس
ه، فيتم التعامي عنها والتسامح معها، وإذا كانت بين اثنين مختلفي الدين، تثور ثائرة المجتمع، ويندفع لمسح العار بالتخريب والتدمير والحرق، وقطع العلاقات بين جيران العمر، لكأن العلاقة هنا مشرعنة، وهناك خيانة للدين واعتداء على حرماته ومقدساته.
هذا العبث تحت راية الدين، يدل على هشاشة وخلل ما، فلا علاقة للدين فيما حدث، ولا ينبغي أن يكون الدين تبريرا لما يحدث. وعندما تنجلي الصورة، وتتوضح الأحداث، ويوضع كل شيء في مكانه الصحيح وبحجمه الطبيعي، تعود المياه إلى مجاريها بين الأصدقاء والجيران، ولكنها ستترك شرخا في الأعماق. تسخر الرواية أيضا من الكهول الذي ينساقون وراء شهواتهم مع فتيات بعمر بناتهم، الأول لتخضرَّ حياته بعد ذبول وضمور وعزلة جففت قلبه وأمحلت حياته، والآخر رغبة في أن يخوض مغامرة مع فتاة من غير دينه، لها نكهتها المختلفة. فعاد الأول إلى عزلته بعد أن اكتوى بنار الخيانة كما ذاقها صديقه عامر مع صاحبته مريم، والثاني خسر منصبه ومكانته، وهرب إلى الصحراء بعد أن أشعل النار خلفه.
تؤكد الرواية حقيقة الضعف الفطري الإنساني، الذي لا يفرق بين صغير أو كبير، أمي أو متعلم، راهب أو غير راهب، فالكل معرض لأن يقع تحت سطوة الإغراء، وخاصة الذي يجيء على طبق من ذهب، يقتحم اقتحاما ولا يترك مجالا للمداراة أو التغافل. فالعصمة لا تصنعها الألقاب والمناصب، وربما كانت الآلقاب ستارا تخفي خلفها كل نواقضها.
تحذر الرواية من الفتنة الطائفية التي قد تشعلها قشة، وهذا يتطلب الالتفات إلى هذه الثغرة الخطيرة، وتمتين الجبهة الداخلية، والتأكيد على قوة العلاقات بين مكونات المجتمع الواحد، وألا يُسمح لأحداث عابرة أن تهدم البناء المتماسك، وتفصم عُرى العلاقات الأخوية. تتميز الرواية بلغة جميلة شفيفة آسرة، لا تكلف فيها ولا تقعر، لغة سلسة تنساب كنهر رقراق يروي الظمآى، ويسر الناظرين، وبناء روائي متين جذاب، نجح في الإمساك بالقارئ حتى الكلمة الأخيرة. لم تُحدد الرواية بمكان معين، وربما كان هذا مقصودا، فأحداث كهذه مرشحة أن تحدث في أي مدينة عربية يوجد فيها مسلمون ومسيحيون، وإن كان تحديد المكان يزيد من متعة الرواية وجمالها، ويجعلها أقرب إلى القارئ، وأكثر حميمية وألفة، أما الزمان فهو وقتنا الحاضر بدليل توظيف الفيسبوك في الرواية.
تناوب أحمد الصابر والراوي العليم الذي كان أحمد الصابر نفسه أيضا مهمة رواية الأحداث وسردها بتداخل وتشابك، ومع أن هذا التداخل لم يؤثر على جمال السرد وانسيابيته وتتابع الأحداث، ولكن أثرَّ على منطقية البناء الروائي، وإن كان يصعب ملاحظته.
وبعد فـ»هي والراهب» رواية ممتعة جميلة، نجح كاتبها في إيصال رسالة مهمة وخطيرة، وحذر من فتن طائفية لدواعٍ لا علاقة لها بالدين، يشعلها الجهل والتسرع والطيش. وأبدع الدعفيس في نسجها بلغة فاتنة، وحرفية عالية، وحس مرهف.

٭ كاتب أردني

الخميس، 28 يوليو 2016

فضاءات

الموت مشقة في بلد تحوّل إلى مقبرة

الأحد 17 يوليو 2016


محمد تركي الدعفيس


“كان بلبل يفكر بصمت ويتساءل ماذا تفعل بنصر يرشح دمًا؟”.
تلك كانت جملة من الصفحة 144 لرواية التساؤلات العريضة التي أطلقها الروائي السوري خالد خليفة في عمله الجديد الذي حمل عنوان “الموت عمل شاق”.
عبر نحو 150 صفحة، يجعلنا خليفة نشمّ رائحة الموت الذي يطل برأسه من كل الزوايا في بلد تحول إلى أشبه ما يكون بمقبرة مفتوحة الفاه تستقطب كل يوم عشرات الجثث، لكأنه يريد أن يقحم رؤوسنا في “الميكروباص” الذي تحول إلى تابوت يحمل جثة تتحول بفعل الحرب وتداعياتها وحواجزها وعوائقها لتكون على مشارف جيفة.
ثمة جثة، وثمة رجلان وامرأة في ميكروباص مشغولون بتنفيذ وصية والدهم بدفنه في قريته البعيدة نحو الشمال، لكن الطريق إليها والتي تستغرق عادة بضع ساعات، استغرقت في زمن الحرب خمسة أيام.
لحظة عاطفية أطلق بلبل خلالها وعدًا لأبيه بتنفيذ وصيته، لكن اللحظة العابرة تحولت عبئاً.. “مرور جنازة كان يثير تعاطف الجميع أيام السلم، السيارات تفسح الطريق، المارة يتوقفون وفي عيونهم تعاطف حقيقي، لكن في الحرب مرور جنازة حدث عادي لا يثير أي شيء سوى حسد الأحياء الذين تحولت حياتهم إلى انتظار مؤلم للموت”. صفحة 10.
الرحلة طويلة، والناقلة واحدة، لكن كلاً من الأشقاء الثلاثة الجالسين قرب بعضهم بعضاً في الميكروباص مسافر لوحده، غارق في أفكاره، يعاني الورطة التي وجد نفسه فيها على حين غرة، ولم يعد يستطيع النجاة منها إلا ببلوغ غايته وهي القرية التي بدت الطريق إليها ممتدة خلف زمن بعيد من الذكريات التي يسترجعها كل منهم بصمت، فتأخذه في رحيل خاص.
كان يفترض بالموت أن يعيد لمّ شمل العائلة التي فرقتها الحياة، لكنه في زمن الحرب يبدو مختلفًا، لا يقوم بدوره، لا يعيد الحميمية، ولا يؤلف القلوب، يصبح فعلاً شاقًّا حين تزدحم المقابر ويصبح الوصول إليها فوق الاحتمال، ولا يعود للأموات حرمة، ويتحول الإنسان، سواء أكان حيًّا أم ميتًا في نظر الناس مجرد “عبء”، وفي نظر الدولة كما قال أحد عناصر الحواجز التي عبرتها الجثة “مجرد وثائق وأوراق”.
تتحول رحلة مواراة جثمان الوالد إلى إيغال الأبناء كل في عالم، كأنه يعيد اكتشاف ذاته التي تاه عنها أو تاهت منه، وكذلك بحث عن خيوط تعيد وئام المجموعة المنكوبة التي فرقتها الأيام قبل أن تجمعها المهمة الأخيرة للوفاء لأب اشتهى العودة جسدًا إلى قريته التي افترق عنها روحًا حال حياته، لكن الرحلة بكل مشاقها تقود في النهاية إلى أن كلاً منهم يكتشف غربته وبعده عن البقية.
وعلى الرغم من أن الموت يشكل مفتاح ومدخل العتبة الأولى للرواية حيث يتصدر عنوانها، ويبقى له الحضور الطاغي فيها، إلا أن إيقاع الرواية بدا متمرّدًا على السكون الذي يفترضه الموت، وأخذنا في رحلة لهاث كأننا نسابق الميكروباص الساعي للوصول بالجثة إلى حيث ستوارى قبل تفسخها وتحللها، وذهب بنا في رحلة بانورامية أساسها الصورة وحركية الشخوص داخل النص وحواراتهم المتبادلة ومونولوجهم الداخلي لنتابع أحوال بلد تتجاذبه الجماعات المسلحة والمقاتلون والتيارات والطوائف، ولنقرأ طقوس الناس المطحونة بحرب لا يبدو أن لها قرارًا.
الرواية تمضي بمسارين، ثمة حياة، وثمة حضور طاغ للموت، وفي تقابلهما وتصارعهما تمضي أحداثها، كأنها رحلة طويلة لاكتشاف كل الندوب التي تركتها الحرب على أجساد من يعيشون جحيمها بلا حول منهم ولا قوة.
الرواية عمل شاق، لكنه يقدم المتعة، ويستحق في النهاية أن يكون إضافة لسلسلة أعمال خالد خليفة التي حظيت بالتقدير وبعدد من الجوائز.http://www.albiladpress.com/article340705-4.html

الخميس، 12 مايو 2016

الروايات السورية الجديدة توثق الوجع والخوف

http://www.alwatan.com.sa/Culture/News_Detail.aspx?ArticleID=263446&CategoryID=7


روايات السورية الجديدة توثق الوجع والخوف



أبها: خلف عامر 2016-05-11 10:42 PM     
تتوالد الروايات التي تسهم في الكشف عبر سرد شخوصها بالفصحى والمحكي، الوجع المتمدد على كل تفاصيل الحياة اليومية في سورية، وتصوير مشاهد القتل والتدمير والتشريد، والإشارة إلى صمت وتخاذل عالمي مقيت.
الجرح السوري المتدفق الجريان بات مادة خصبة يستمد الكتّاب منه مادة خصبة لرواياتهم التي تتمثل في رصد وتوثيق ما يجري في هذا البلد المكلوم من قتل وجوع وخوف وتنقل قسري بحثاً عن بقايا أمان، فمن الكتّاب من دلف إلى رصد قتل القيم والنفس في آن معا، كما صورته رواية "الرصاصة تقتل مرتين" لمحمد تركي الدعفيس.
وانضمت رواية أخرى صدرت عن دار الفارابي للنشر والتوزيع في بيروت، بعنوان "آخر ما تبقى من الزنبقة" للكاتب إيهاب عبد ربه، لتحاكي مستنقع الوجع السوري وتستنطق شخوصه لتدوّين بألسنتها تفاصيله، عبر رحلة سردية تسلط الضوء على ما يجري في سورية من قتل وتدمير وابتزاز ومساومة على لقمة وأمن وأمان الناس، وتداعيات هذه الحالة وتبعاتها النفسية الاجتماعية والاقتصادية، وما ينتج عنها من قتل لقيم التصالح والتسامح.
فيما يتابع خالد خليفة في روايته الصادرة أخيرا "الموت عمل شاق" رصد ثيمة الموت والهلع والحاجة والقهر في تلخيص للمحنة السورية، مركزا على أنه لا شيء أقوى من الموت في سورية. 

الثلاثاء، 10 مايو 2016

الكاتب عبدالسلام هلال يقدم قراءة انطباعة عن روايتي "قوافل الريح"

قراءة انطباعية في رواية "قوافل الريح" للروائي محمد تركي الدعفيس
"الأوطان لا تغدر، لا تُطلق الرصاص على أبنائها، لا ترفض عودتهم إلى أحضانها، لا تقابلهم أبداً بوابلٍ كان يئِز قرب أذنيّ وأنا مصرٌّ على مواصلة خطوات العودة.. صرتُ قريباً منه إلى حدٍ لم أكن أتصوره، وكنت أريد أن أوغل أكثر في أحضانه حتى لو سقطتُ في النهاية مضرّجاً فيه، كنت أرفض أن أموت نصفاً فيه ونصفاً في الضياع.
بدأت أهروّل باتجاه الرصاص متحدياً.. لم يكن ما أفعله جنوناً!، موتي بعيداً هو الجنون الحقّ، وتراجعي الآن لأقضي خارج الوطن يمنح أولئك الذين أقصوني عنه يوماً، وتؤرقهم عودتي إليه اليوم، مأربهم.
باغتتني رصاصةٌ أولى في الصدر فانتفضتُ، ردّتني قليلاً إلى الخلف، خسرتُ خطوة في مشوار العودة، وخشيتُ أن أخسر غيرها، فعاودت الجري.. تجاورتْ معها رصاصة ثانية.. شلال الدم المتدفق يشدني بقوة للأسفل، قاومته قليلاً، وانهرتُ أخيراً، ارتميتُ على وجهي، لم يكن لائقاً أن أدير ظهري للوطن مرة أخرى، غرستُ كفيّ عميقاً في ترابه، أمسكتُ قبضتين منه، شددتُ عليهما بكل ما تبقى لي من قوة، ولم يعد يهمني أن أموت الآن أو بعد قليل، فقد زُرعت ها هنا من جديد".
هذا المقطع هو خاتمة ونهاية رواية  "قوافل الريح" للصديق الكاتب الجميل محمد تركي الدعفيس، وهي الرواية الثانية له بعد روايته الملحمية المشهدية بامتياز "الرصاصة تقتل مرتين"، وقد كتبت عنها رؤية انطباعية، وأشرت فيها لبعض الهنات التي تلافاها كلها وباقتدار في روايته التي بين أيدينا هذه.
بهذا المنطق، وهو محاولة الوصول للكمال في الرواية، وبمنطق الحرب وصراعاتها وآثارها التي تتركها على الجميع، بل وتطحنهم، خصوصاً لو كانوا من ملح الأرض كما نقول، فأنا أكاد أجزم أن هذه الرواية هي الجزء الثاني من رواية "الرصاصة تقتل مرتين"، بل ولعلها تقودنا لتوقع أن يتحفنا الكاتب بأكثر من جزء يؤرخ للثورة والأحداث في سورية العزيزة لعل الله يحدث لها أمر خير تعود به أفضل مما كانت.
ومن الطريف أنني أستخدم طريقة الفلاش باك في الحديث عن الرواية فقد بدأت بآخر مشهد فيها، ولعله هو مربط الفرس في علاقتنا بالأوطان، حتى ولو لم نكن مدركين لهذا، فكثير منا إن لم يكن الغالبية العظمى يصر على أن يموت ويدفن في تراب وطنه (هذا رغم أنني رصدت حالة مغايرة في قصتي "آخر كلماته" والتي تشبث فيها البطل أن يموت في غربته بل ويدفن فيها كما أوصى بها أبناءه)، وقد استغربت أنا نفسي هذا السلوك من بطل قصتي، كما الآن أثمن سلوك بطل رواية "قوافل الريح".
وهذا المدخل لقراءة الرواية والذي ركزت فيه على الظرف التاريخي ومشاعر الناس تجاه أوطاننا يقودنا إلى السؤال عن معنى عنوان الرواية "قوافل الريح".
بداية الرواية وإن كانت مشهدية إلا أنها تتبع التحليل النفسي للشخصيات بأكثر ما تعتمد على حوارات الشخصيات رغم أن الحوار فيها كان راقياً جداً، ولو أنه جاء غالباً باللهجة الشامية، وبالمناسبة فهي لهجة محببة لدي أنا شخصياً وأستطيع فهم معظم مفرداتها وإن كانت كل المفردات بحوار الرواية جاءت سهلة وسلسة وبسيطة ومعبرة عن أوجاع أبطال الرواية، وبدا أن الكاتب حرص خلالها متعمداً أن تكون مفهومة من الجميع وليس فقط ممن ينطقون هذه اللهجة.
وبمناسبة الحديث عن أبطال الرواية فلم يكن هناك بطل واحد لها، وإنما حكايات الشخصيات تمثل البطولة الحقيقية، رغم أن شخصية فاروق من وجهة نظري هي البطل الحقيقي لأنه عبّر عن جنون الحرب سواء في الانخراط فيها، أو حتى الهروب منها داخل الوطن، أو الهروب منها خارج الوطن.
تقودنا هذه النقطة إلى الحديث عن عنوان الرواية، ولعل الكاتب اختار هذا الاسم تعبيرا عن أن كلمة "قوافل" دائماً موحية بالخير المحمل على ظهور الجمال والخيل والبغال كتراث عربي تاريخي، أما "قوافل الريح" فهي تعبر عن الخواء الذي أصابنا لدرجة أن قوافلنا لم تعد تحمل إلا جثثنا لتلقي بها في الصحراء أو تموت في مخيمات الإيواء، أو تعود جافلة لتموت عند أقرب نقطة حدودية داخل الوطن كما حدث لشخصية أيهم الذي اختار العودة للوطن.
قلنا إن الحرب لها آثار جانبية كثيرة جداً ومنها ما هو آني، كالموت والتشريد والهروب خارج حدود الوطن، لاجئون.. كلمة قميئة تعبر عن ضيق بلادنا بوجودنا فيها، فهل يعقل أن تتحول الأوطان إلى قاذفات لهب ترمي بنا خارجها؟، بالفعل هي أفكار مجنونة، ولا يدفع ثمنها إلا هؤلاء البسطاء الذين نجح الكاتب في اختيار توليفة النزوح منهم، وتقريبا من معظم أطياف سورية، رغم أن هذا صعب من ناحية الجغرافيا حيث يتنوع الناس داخل أجزاء الوطن، إلا أنني أحسست أنها تمثل معظم الواقع السوري كما نعرفه أو على الأقل نتخيله.
عشت مع الرواية فترة جميلة جداً أعادتني للقراءة بتأن وتمعن أكثر، حتى ولو كان غرضي من التمعن هو الكتابة الانطباعية عنها، إلا أنها كانت رائعة في السرد الذي انساب بهدوء شديد، هذا عكس الرواية الأولى التي كانت مشهدية بامتياز، وأيضا رغم مشهدية هذه الرواية فلم تطغى على الصورة، وإنما كانت هناك مساحة رائعة لكي يغوص الكاتب داخل الشخصيات ويكتبها ببراعة فائقة.
لا يمكنك الاستمتاع بالأدب إلا إذا كنت صاحب خيال مبني على معرفة، وبعض من أحداث الرواية كان لابد له من خلفية جيدة عند المتلقي حتى يستوعب ما حدث، وظهر هذا جليا في حكاية أم صالح وزواج ابنتها عزيزة، هذا المشهد كان من أروع ما كتبه الدعفيس من مشاهد، فهو على بساطته وتلقائيته أعطاني الانطباع بالعجز والخوف والهلع وعدم الأمان الذي تعانيه أم خائفة على ابنتها حتى وسط بني جلدتها، وفيه تصور واضح عن الخوف من الغرائز المبنية على الاستهتار ودهس القيم والأخلاق من شباب وجد نفسه لا يفعل شيئا وبلده تكاد تضيع ولا يجد أمامه إلا أوراق اللعب يقضي وقته فيها متغلباً على تفاهته تارة وعلى الفئران بالمعسكر تارة أخرى.
لا يوجد مدينة فاضلة، عنوان كبير كتب تحته الكاتب أحداثاً كثيرة، سواء في رحلة الهروب أو في المعاملة في المخيمات أو حتى في زواج عزيزة من ابن البلد التي نزحوا إليها، بالفعل لابد أن نتوقع كما دلنا الكاتب على وجود الشر دائماً، وفي كل الأحوال والأماكن التي نعيش فيها، حتى ولو كانت مدننا للخير فقط، فسوف تجد فيها من يحمل الشر في طيات ملابسه وفي تلافيف قلبه وروحه.
نأتي للجانب الفني أو التقني بالرواية وأقول إن الرواية اتسمت بكثير من البساطة في الطرح مع عمق المعنى والمغزى فلا يخفى على أي متابع للأحداث السياسية في سورية والمنطقة العربية عموماً ما خلفته الحروب من ويلات ولذا فلم يحتاج الكاتب لكثير من التوضيح وإنما ترك للأحداث بالرواية أن تقول ما يريد، فمجرد تفكير البشر في هجرة المكان بسبب الحروب، هذا رغم أن كل شخصية لها أسبابها في النزوح، والتي نجح الكاتب في رصد التنوع فيها، حتى بين الضابطين الفارين من الجيش النظامي تعددت أسباب كل منهما في اتخاذ قرار النزوح من البلد، وهذه نقطة رائعة أن تتحدث الرواية عن أناس طبيعيين بما يعيشونه من لحظات ضعف وقوة وانتماء للوطن أو حتى نجاة بالروح فقط، كما نلحظ من النزوح الفردي، أو حتى نصف أسرة، وهذه نقطة أخرى تبين صعوبة القرار، وقد كانت لفتات موفقة جداً من الكاتب أن يعرّج على كل المشاعر الإنسانية في أوج لحظاتها ما بين الأنانية وبين الإيثار كخليقة بشرية رائعة.
مع بساطة الطرح والعمق وأيضاً اللغة الجميلة الشاعرية أحياناً والجانحة نحو المحلية أخرى، والتي عبرت عن أفضل وأخس حالات السلوك البشري، وكما قلنا إنهم عينة من الشعوب التي تعاني ويلات الحرب، ووقت الحرب لا تكون معايير الحكم على البشر وتصرفاتهم كما لو كانوا في وقت السلم والدعة والرخاء.
تقودنا هذه النقطة إلى تقنية رسم الشخصيات، وقد أحسست أنني بالفعل أمام بشر حقيقيين يتحدثون ويتصرفون كما لو كانوا على مسرح الحياة، وليس بين دفات رواية متوسطة الطول لم تتجاوز الـ200 صفحة، ولكنها أدت ما هو مطلوب من الرواية سواء كانت ملحمة أو كانت رواية قصيرة.
أحسست بسمت الشخصيات وتفاصيل وجوهها أحياناً رغم أن الكاتب لم يفصح كثيراً عن ذلك ولعلها نقطة إيجابية أن يترك الكاتب مساحة تخيل لدى القارئ حينما يقرأ روايته.
وهناك نقطة أخرى مهمة جداً وهي الحضور الطاغي للمرأة في هذه الرواية بحوالي عشر شخصيات، ما يوازي تقريباً نصف شخوص الرواية، وهذا دليل على أن المرأة العربية كانت حاضرة في كل أحداث الوطن، ولعله إقرار منا نحن الرجال بتواجد رائع للمرأة حتى في رواياتنا كأحد أهم مقومات الحياة فيها، هذا رغم أن قصة الحب الوحيدة بالرواية كانت ضمن ذكريات البطل كأحد أهم محطات حياته حينما أراد الكاتب أن يعرفنا على شخصية الضابط أيهم المنشق عن الجيش السوري رغم أنفه.
يتبقى فقط الحديث عن الزمان والمكان، وهنا تعامل الكاتب مع الواقع، فالزمن معلوم للكافة، وهو وقت الصراع في سورية، وبما أنه ما زال محتدماً فمن الأفضل البدء في الأحداث مباشرة دون التطرق للتواريخ إلا قليلاً، أما عن المكان فقد كان حضوره طاغياً بالرواية ولعله أحد أبطال العمل، فقد جعلني الكاتب أسير معه من البداية للنهاية كما لو كنت أخوض التجربة بنفسي، حتى لكأنني أحسست بالتعب جراء صعود الجبل والسير في الرمال، بل نقل لي حالة الخوف والتوجس من انكشاف أمر هؤلاء الفارين بأرواحهم، ومازلت أشعر بالحزن لما أصابهم بالطريق ففقدوا أربعة عشرة شخصاً من رفقاء الرحلة، مروراً بالطريق إلى الأردن وداخله، وصولاً للمخيم ذاته حتى أنني كنت أحس بالبرد الذي كان يلسعهم داخل هذا المخيم مع دخول فصل الشتاء.
رغم أن الرحلة نفسها كانت قاسية وقد شعرت قسوتها تماماً من خلال مشاهد رائعة كتبها ببراعة محمد الدعفيس إلا أنني عشت تجربة رائعة روائياً وإنسانياً.

الرواية في مجملها جميلة وأتمنى أن أقرأ للصديق العزيز محمد الدعفيس أعمالاً أكثر تألقاً وإبداعاً دائماً... مع خالص تحياتي.https://www.facebook.com/groups/204639112889584/permalink/1142622112424608/

السبت، 16 أبريل 2016

صحيفة "البلاد" الحرينية تكتب عن "الرصاصة تقتل مرتين"

رصاصة الدعفيس تقتل مرتين.. الجسد والقيم

السبت 16 أبريل 2016
الرواية أداة وعي فنية ترصد الواقع وتبدلاته وأزمات المجتمع العامة والخاصة، تجسدها شخصياتها، حسب رؤى ومواقف المؤلف المخفية تارة والواضحة تارة أخرى، بلغة سردية تشد القارئ لمعرفة تفاصيلها.
رواية محمد تركي الدعفيس “الرصاصة تقتل مرتين” انضمت إلى الروايات التي تناولت الأزمة السورية منذ اندلاعها العام 2011، مع تعمد الروائي سحب القارئ ووضعه مكان الضحية.
الروائي إلى جانب تأريخه للحالة السورية ومعايشته لها، أو نقلها عن أناس، تكلم في الرواية عن وجعهم بشكل واضح من خلال رصد انفعالاتهم وزفراتهم المخنوقة بالتلميح تارة، وبالتصريح تارة أخرى.
في العتبة الأولى لرواية “الرصاصة تقتل مرتين”، وهي العنوان، أكد على أن الرصاص كان أداة إنهاء الحياة للكائنات، ثم اختصته البشرية لاغتيال الإنسان الذي كرمه خالقه ووهبه العقل وميزه عن غيره من الكائنات.
الرصاصة في الوعي الجمعي تسرد للمرء سيرة الإعدام الفردي، لكن الكاتب في روايته حمّلها وزر القتل مرتين، قتل الإنسان ليعود لسيرته الأولى – التراب – وقتل القيم وأهمها التسامح، ليصبح الموت حالة مستدامة كأنما هي الحالة الاعتيادية.
وفي الغلاف “الإطار” يدل على الوطن الذي غادره المغدور ليبقى خيالا في بقايا ذواكر الناس الممزقة، وفي الجزء الثاني من الغلاف رسم بقايا ظُلمة تحاصر القاتل وتطارده أنّى حل جرّاء سوء فعلته، وهنا إشارة تدلل بشكل واضح على تعطل العقل، وأشار في الكرسي المتحرك إلى الإعاقة التي تحدثها رصاصة الأخ للأخ، في حوار بين النظر وتداعيات الهزيمة من الذات والمكان.
وتحفل الرواية بالبكائيات، ففي البكائية الأولى التي تمثلت في الإهداء “إلى كل الضحايا ـ دمشق 2015” ينزع الكاتب نحو الإنسانية المطلقة، في مقولته، ترتعش حروفه وتنز كلماته خوفاً ووجعاً، جرّاء الفقد الإنساني الممنهج الذي تغلفه المصالح، والمرسوم بعناية، فالضحية ليست التي زُهقت روحها، بل الأحياء الأموات الذين ضيّق الخوف والحصار والجوع المدى الواسع عليهم.
في البكائية الثانية يرسل الكاتب عدة تساؤلات مقلقة عن زمن موغل في الوجع والسكون والكسر، ويدلل على مقاربة للسجن الافتراضي - الغرفة - والتأكيد على الظلمة والتوقف عن الحركة والركض اتجاه اليأس.
“دخان السجائر الست يخنق الغرفة، وأجدني كسولاً حتى عن فتح النافذة، الآن أتذكر أن للغرفة نافذة، وأنني دفنتها منذ حين خلف ستارة نصف شفافة، وأخرى تكتم الضوء، تنفذ فيه حكم الإعدام كلما شاءت”.
المونولوج الداخلي للسارد يكسر الرتابة، يفر من بعضه الموجوعة إلى بعضه السابحة باليأس يجتر دفلى التساؤل، فهو يقول: “أفكر.. لو كنا نفهم شكوى أعضائنا، هل تراها كانت ستشتكي لنا أم منا؟ هل تثق بنا؟ وحين نتركها ذات يوم خلفنا، حتى لو كنا مرغمين، ألا تشعر بالغضب حيالنا؟.
أجزم أنها تفعل، لا أحد يُحب أن يبقى مرمياً على قارعة الطريق.. حتى الأحلام تغضب إن تركناها؟
وفي رؤية أشد قتامة يصرخ صوته الداخلي قائلاً: “المسافة بين اليوم والأمس تبدو بعيدة جداً” ويرصد الحاجة التي يستدعي منه الركض المتواصل.
“كنا نهرول كثيراً.. خلف السيارة.. خلف رغيف الخبز.. خلف فرصة عمل.. خلف مقعد في الجامعة.. سرير في غرفة جامعية.. أو سرير في مستشفى.. أتراهم كانوا يجبروننا على ذلك حتى لا نتوقف عن اللهاث؟.. لعلهم كانوا يعرفون أن مجرد التوقف يتيح لنا فرصة لأن نفكر، انتبه فجأة: يا إلهي كم كان تفكيرنا يرعبهم؟!”.
هذا الإيجاز الذي سرده الراوي يختزل رؤية المُسْتَغِل الدميمة التي تزرع الخوف في كل من يحاول أن يفكر.
وركز الروائي على ذكر تفاصيل حياتية غاية في الدقة من خلال حوارات الحلم بين فتاتين وتأكيدهن على أن الحرب لم تهدر الأحلام بل والذكريات أيضاً، وتصوير حالة القصف وتداعياتها على الأطفال، وفرزت النفوس المريضة التي تتاجر بكل شيء على مبدأ” اللهم أسألك نفسي” وبينت معادنهم، ورصد قلق الناس أثناء خروجهم وسفرهم الذي يتنامى في كل ثانية، مخافة ألا يعودوا وتكون نهايتهم على الطرقات من قذيفة طائشة ظلت طريقها.
خلف عامر

http://www.albiladpress.com/article330379-4.html

لا توجد تعليقات


الإسم

الجمعة، 15 أبريل 2016

الروائي الأرتيري حجي جابر يكتب في صحيفة "الوطن" القطرية عن روايتي "الرصاصة تقتل مرتين"




الثورة النبيلة.. إلا قليلا



5 July 2015 0 7
حجي جابر

لا يكفي قيام ثورة في وجه الطغاة تنادي بالحرية والعدل وإنهاء القمع، حتى تكون ثورة نبيلة بالكامل.

الثورات ما لم تواجه طغيان أنفسنا أيضا سيعتورها الكثير من النقص والتخبط، وستتحول مطيّة لطغيان جديد بصورة مختلفة.

هذا بعض ما تقوله رواية جميلة انتهيت منها للتو بعنوان «الرصاصة تقتل مرتين» للروائي السوري محمد الدعفيس ترصد زاوية هامة من زوايا الثورة السورية التي لم تكتمل بعد، لكنّ الروائي استطاع أن يقول شيئا قيّما، ويلتفت لما يتم تجاهله عادة حين يصرخ الجميع بالثورة.> ولعلّ الإهداء هنا يصلح ليكون عتبة للنص، فالدعفيس يهدي روايته «إلى كل الضحايا»، وكأنه يحاول إعادة تعريف الضحايا الذين يسقطون في الثورات، فيوسّع من الدائرة لتشمل من تبتلعهم الثورات نفسها وليس فقط من تستهدفهم القوى التابعة للأنظمة المستبدة.

يمضي العمل الصادر عن نادي الباحة الأدبي ودار الانتشار العربي في نحو مئتي صفحة توزعت على أربعة فصول وورقة أخيرة، يمضي في عدة مستويات، فهناك شاب جامعي له آماله وأحلامه العريضة قبيل اندلاع الثورة، ونفس الشاب نراه حين ينخرط في الثورة بالنبل ذاته، إلى أن نرى في المستوى الثالث الحال التي آل إليها في مقارنة بنوع آخر من الثوار كانت لهم نهاية مختلفة.. وكان الجميل هنا أن المستويات الثلاثة كانت تتداخل بطريقة رشيقة منحت النص التشويق اللازم.. فالحكاية تبدأ من النهاية، من المآل الذي بلغه الثائر معطوباً وفاقدا لإحدى ساقيه في غرفة ضيقة، تضيق بدخان سجائره الذي لا يجد منفذا يعبر من خلاله.. ثم نسترجع رفقة الثائر تلك الأيام الطويلة التي أفضت به إلى حاله هذه «تعلّق الأوسمة على الصدور، لكنها لا تظهر على صدور حامليها إلا في المناسبات، أما هو، فوسامه ملتصق به، يذهب معه حيثما يكون».

وهنا يبدو غريباً بعض الشيء أن يصل الروائي ببطله إلى نهاية يُستقى من العبر، بينما لا تزال الثورة مستمرة.. لكنّ هذا ربما يوضح إلى أي مدى أصبحت الثورة تدور حول نفسها كطاحونة كبيرة مادتها الأساسية هي كل تلك الوجوه التي مرّت بالثورة لكن بنوايا مختلفة.. فرفاق الثورة لم يكونوا على قلب نبل واحد، وإنما كانت الأغراض الشخصية تحرّك بعضهم، حتى إذا وجدوا فرصتهم، أعطوا كل القيم التي كان ينادون بها ظهورهم، وولّوا لحياة جديدة مترفة بالملايين التي حصدوها من الثورة المغدورة.

يبدو لي هذا النص كجرس إنذار استباقي يحاول عبره الروائي أن يُخبر السوريين جميعا أن انتصار الثورة المنتظر قد لا يحمل خلاصا تامّا من الاستبداد، ما لم يلتفتوا إلى استبداد أنفسهم أولا. وكأنه هنا يمتثل مقولة الأرغواياني إدواردو غاليانو: «اليوم الأخير من الاستبداد، هو اليوم الأول من الشيء نفسه».. وكان لافتاً أن النص لم يشر لمنطقة أو مدينة ما، وكأنه يقول إن ما يحدث، يحدث في كل مكان في هذا الوطن المنهك.

بقي أن أقول إن لغة النص كانت رفيعة وتشي بتمكّن صاحبها من أدواته، كما أن العمل كان مشبّعاً بالتأمل، عبر العبارات المنثورة عبر الصفحات والتي ناسبت تماماً حالة التذكر الممزوجة بالخيبة لثائر سابق ومعطوب حالي.http://www.al-watan.com/mobile/viewnews.aspx?n=102CC533-3DF6-4496-8541-37B688E50C1C&d=20150705#.VZxbZ0YUfQJ!