قراءة انطباعية في رواية
"قوافل الريح" للروائي محمد تركي الدعفيس
"الأوطان
لا تغدر، لا تُطلق الرصاص على أبنائها، لا ترفض عودتهم إلى أحضانها، لا تقابلهم
أبداً بوابلٍ كان يئِز قرب أذنيّ وأنا مصرٌّ على مواصلة خطوات العودة.. صرتُ
قريباً منه إلى حدٍ لم أكن أتصوره، وكنت أريد أن أوغل أكثر في أحضانه حتى لو سقطتُ
في النهاية مضرّجاً فيه، كنت أرفض أن أموت نصفاً فيه ونصفاً في الضياع.
بدأت أهروّل باتجاه الرصاص متحدياً.. لم يكن ما
أفعله جنوناً!، موتي بعيداً هو الجنون الحقّ، وتراجعي الآن لأقضي خارج الوطن يمنح
أولئك الذين أقصوني عنه يوماً، وتؤرقهم عودتي إليه اليوم، مأربهم.
باغتتني رصاصةٌ أولى في الصدر فانتفضتُ، ردّتني
قليلاً إلى الخلف، خسرتُ خطوة في مشوار العودة، وخشيتُ أن أخسر غيرها، فعاودت
الجري.. تجاورتْ معها رصاصة ثانية.. شلال الدم المتدفق يشدني بقوة للأسفل، قاومته قليلاً،
وانهرتُ أخيراً، ارتميتُ على وجهي، لم يكن لائقاً أن أدير ظهري للوطن مرة أخرى،
غرستُ كفيّ عميقاً في ترابه، أمسكتُ قبضتين منه، شددتُ عليهما بكل ما تبقى لي من
قوة، ولم يعد يهمني أن أموت الآن أو بعد قليل، فقد زُرعت ها هنا من جديد".
هذا المقطع هو خاتمة ونهاية رواية "قوافل الريح" للصديق الكاتب الجميل
محمد تركي الدعفيس، وهي الرواية الثانية له بعد روايته الملحمية المشهدية بامتياز
"الرصاصة تقتل مرتين"، وقد كتبت عنها رؤية انطباعية، وأشرت فيها لبعض
الهنات التي تلافاها كلها وباقتدار في روايته التي بين أيدينا هذه.
بهذا المنطق، وهو محاولة الوصول للكمال في الرواية،
وبمنطق الحرب وصراعاتها وآثارها التي تتركها على الجميع، بل وتطحنهم، خصوصاً لو
كانوا من ملح الأرض كما نقول، فأنا أكاد أجزم أن هذه الرواية هي الجزء الثاني من
رواية "الرصاصة تقتل مرتين"، بل ولعلها تقودنا لتوقع أن يتحفنا الكاتب
بأكثر من جزء يؤرخ للثورة والأحداث في سورية العزيزة لعل الله يحدث لها أمر خير
تعود به أفضل مما كانت.
ومن الطريف أنني أستخدم طريقة الفلاش باك في الحديث
عن الرواية فقد بدأت بآخر مشهد فيها، ولعله هو مربط الفرس في علاقتنا بالأوطان،
حتى ولو لم نكن مدركين لهذا، فكثير منا إن لم يكن الغالبية العظمى يصر على أن يموت
ويدفن في تراب وطنه (هذا رغم أنني رصدت حالة مغايرة في قصتي "آخر
كلماته" والتي تشبث فيها البطل أن يموت في غربته بل ويدفن فيها كما أوصى بها
أبناءه)، وقد استغربت أنا نفسي هذا السلوك من بطل قصتي، كما الآن أثمن سلوك بطل
رواية "قوافل الريح".
وهذا المدخل لقراءة الرواية والذي ركزت فيه على
الظرف التاريخي ومشاعر الناس تجاه أوطاننا يقودنا إلى السؤال عن معنى عنوان
الرواية "قوافل الريح".
بداية الرواية وإن كانت مشهدية إلا أنها تتبع
التحليل النفسي للشخصيات بأكثر ما تعتمد على حوارات الشخصيات رغم أن الحوار فيها
كان راقياً جداً، ولو أنه جاء غالباً باللهجة الشامية، وبالمناسبة فهي لهجة محببة
لدي أنا شخصياً وأستطيع فهم معظم مفرداتها وإن كانت كل المفردات بحوار الرواية
جاءت سهلة وسلسة وبسيطة ومعبرة عن أوجاع أبطال الرواية، وبدا أن الكاتب حرص خلالها
متعمداً أن تكون مفهومة من الجميع وليس فقط ممن ينطقون هذه اللهجة.
وبمناسبة الحديث عن أبطال الرواية فلم يكن هناك بطل
واحد لها، وإنما حكايات الشخصيات تمثل البطولة الحقيقية، رغم أن شخصية فاروق من
وجهة نظري هي البطل الحقيقي لأنه عبّر عن جنون الحرب سواء في الانخراط فيها، أو
حتى الهروب منها داخل الوطن، أو الهروب منها خارج الوطن.
تقودنا هذه النقطة إلى الحديث عن عنوان الرواية،
ولعل الكاتب اختار هذا الاسم تعبيرا عن أن كلمة "قوافل" دائماً موحية
بالخير المحمل على ظهور الجمال والخيل والبغال كتراث عربي تاريخي، أما "قوافل
الريح" فهي تعبر عن الخواء الذي أصابنا لدرجة أن قوافلنا لم تعد تحمل إلا
جثثنا لتلقي بها في الصحراء أو تموت في مخيمات الإيواء، أو تعود جافلة لتموت عند
أقرب نقطة حدودية داخل الوطن كما حدث لشخصية أيهم الذي اختار العودة للوطن.
قلنا إن الحرب لها آثار جانبية كثيرة جداً ومنها ما
هو آني، كالموت والتشريد والهروب خارج حدود الوطن، لاجئون.. كلمة قميئة تعبر عن
ضيق بلادنا بوجودنا فيها، فهل يعقل أن تتحول الأوطان إلى قاذفات لهب ترمي بنا
خارجها؟، بالفعل هي أفكار مجنونة، ولا يدفع ثمنها إلا هؤلاء البسطاء الذين نجح
الكاتب في اختيار توليفة النزوح منهم، وتقريبا من معظم أطياف سورية، رغم أن هذا
صعب من ناحية الجغرافيا حيث يتنوع الناس داخل أجزاء الوطن، إلا أنني أحسست أنها
تمثل معظم الواقع السوري كما نعرفه أو على الأقل نتخيله.
عشت مع الرواية فترة جميلة جداً أعادتني للقراءة
بتأن وتمعن أكثر، حتى ولو كان غرضي من التمعن هو الكتابة الانطباعية عنها، إلا
أنها كانت رائعة في السرد الذي انساب بهدوء شديد، هذا عكس الرواية الأولى التي
كانت مشهدية بامتياز، وأيضا رغم مشهدية هذه الرواية فلم تطغى على الصورة، وإنما
كانت هناك مساحة رائعة لكي يغوص الكاتب داخل الشخصيات ويكتبها ببراعة فائقة.
لا يمكنك الاستمتاع بالأدب إلا إذا كنت صاحب خيال
مبني على معرفة، وبعض من أحداث الرواية كان لابد له من خلفية جيدة عند المتلقي حتى
يستوعب ما حدث، وظهر هذا جليا في حكاية أم صالح وزواج ابنتها عزيزة، هذا المشهد
كان من أروع ما كتبه الدعفيس من مشاهد، فهو على بساطته وتلقائيته أعطاني الانطباع
بالعجز والخوف والهلع وعدم الأمان الذي تعانيه أم خائفة على ابنتها حتى وسط بني
جلدتها، وفيه تصور واضح عن الخوف من الغرائز المبنية على الاستهتار ودهس القيم
والأخلاق من شباب وجد نفسه لا يفعل شيئا وبلده تكاد تضيع ولا يجد أمامه إلا أوراق
اللعب يقضي وقته فيها متغلباً على تفاهته تارة وعلى الفئران بالمعسكر تارة أخرى.
لا يوجد مدينة فاضلة، عنوان كبير كتب تحته الكاتب
أحداثاً كثيرة، سواء في رحلة الهروب أو في المعاملة في المخيمات أو حتى في زواج
عزيزة من ابن البلد التي نزحوا إليها، بالفعل لابد أن نتوقع كما دلنا الكاتب على
وجود الشر دائماً، وفي كل الأحوال والأماكن التي نعيش فيها، حتى ولو كانت مدننا
للخير فقط، فسوف تجد فيها من يحمل الشر في طيات ملابسه وفي تلافيف قلبه وروحه.
نأتي للجانب الفني أو التقني بالرواية وأقول إن
الرواية اتسمت بكثير من البساطة في الطرح مع عمق المعنى والمغزى فلا يخفى على أي
متابع للأحداث السياسية في سورية والمنطقة العربية عموماً ما خلفته الحروب من
ويلات ولذا فلم يحتاج الكاتب لكثير من التوضيح وإنما ترك للأحداث بالرواية أن تقول
ما يريد، فمجرد تفكير البشر في هجرة المكان بسبب الحروب، هذا رغم أن كل شخصية لها
أسبابها في النزوح، والتي نجح الكاتب في رصد التنوع فيها، حتى بين الضابطين
الفارين من الجيش النظامي تعددت أسباب كل منهما في اتخاذ قرار النزوح من البلد،
وهذه نقطة رائعة أن تتحدث الرواية عن أناس طبيعيين بما يعيشونه من لحظات ضعف وقوة
وانتماء للوطن أو حتى نجاة بالروح فقط، كما نلحظ من النزوح الفردي، أو حتى نصف
أسرة، وهذه نقطة أخرى تبين صعوبة القرار، وقد كانت لفتات موفقة جداً من الكاتب أن
يعرّج على كل المشاعر الإنسانية في أوج لحظاتها ما بين الأنانية وبين الإيثار
كخليقة بشرية رائعة.
مع بساطة الطرح والعمق وأيضاً اللغة الجميلة
الشاعرية أحياناً والجانحة نحو المحلية أخرى، والتي عبرت عن أفضل وأخس حالات
السلوك البشري، وكما قلنا إنهم عينة من الشعوب التي تعاني ويلات الحرب، ووقت الحرب
لا تكون معايير الحكم على البشر وتصرفاتهم كما لو كانوا في وقت السلم والدعة
والرخاء.
تقودنا هذه النقطة إلى تقنية رسم الشخصيات، وقد أحسست
أنني بالفعل أمام بشر حقيقيين يتحدثون ويتصرفون كما لو كانوا على مسرح الحياة،
وليس بين دفات رواية متوسطة الطول لم تتجاوز الـ200 صفحة، ولكنها أدت ما هو مطلوب
من الرواية سواء كانت ملحمة أو كانت رواية قصيرة.
أحسست بسمت الشخصيات وتفاصيل وجوهها أحياناً رغم أن
الكاتب لم يفصح كثيراً عن ذلك ولعلها نقطة إيجابية أن يترك الكاتب مساحة تخيل لدى
القارئ حينما يقرأ روايته.
وهناك نقطة أخرى مهمة جداً وهي الحضور الطاغي للمرأة
في هذه الرواية بحوالي عشر شخصيات، ما يوازي تقريباً نصف شخوص الرواية، وهذا دليل
على أن المرأة العربية كانت حاضرة في كل أحداث الوطن، ولعله إقرار منا نحن الرجال
بتواجد رائع للمرأة حتى في رواياتنا كأحد أهم مقومات الحياة فيها، هذا رغم أن قصة
الحب الوحيدة بالرواية كانت ضمن ذكريات البطل كأحد أهم محطات حياته حينما أراد
الكاتب أن يعرفنا على شخصية الضابط أيهم المنشق عن الجيش السوري رغم أنفه.
يتبقى فقط الحديث عن الزمان والمكان، وهنا تعامل
الكاتب مع الواقع، فالزمن معلوم للكافة، وهو وقت الصراع في سورية، وبما أنه ما زال
محتدماً فمن الأفضل البدء في الأحداث مباشرة دون التطرق للتواريخ إلا قليلاً، أما
عن المكان فقد كان حضوره طاغياً بالرواية ولعله أحد أبطال العمل، فقد جعلني الكاتب
أسير معه من البداية للنهاية كما لو كنت أخوض التجربة بنفسي، حتى لكأنني أحسست
بالتعب جراء صعود الجبل والسير في الرمال، بل نقل لي حالة الخوف والتوجس من انكشاف
أمر هؤلاء الفارين بأرواحهم، ومازلت أشعر بالحزن لما أصابهم بالطريق ففقدوا أربعة
عشرة شخصاً من رفقاء الرحلة، مروراً بالطريق إلى الأردن وداخله، وصولاً للمخيم
ذاته حتى أنني كنت أحس بالبرد الذي كان يلسعهم داخل هذا المخيم مع دخول فصل
الشتاء.
رغم أن الرحلة نفسها كانت قاسية وقد شعرت قسوتها
تماماً من خلال مشاهد رائعة كتبها ببراعة محمد الدعفيس إلا أنني عشت تجربة رائعة
روائياً وإنسانياً.