الاثنين، 19 نوفمبر 2018

إنعام كمونة تنطلق من سيمائية العنوان لتغوص في أعماق رواية "البلم"




قراءة إنعام كمونة
بما أن العنوان هو هوية النص وجدلية الترابط بينهما تقنية الإيحاء لتحفيز ذهن القارئ لفهم المضمون وبذا التأثير يستشف الدلالة بوعي أجمالي عما يتوقعه وما يستجلي من باطنه اشارات وعلامات من رؤى لتأويله.
_ لذا سأتطرق للعنوان وما يكتنفه من سيمائية أيقاع موشي بعدة ثيمات تنضح من شفافية الفكرة وعمق الرؤى بما تتبناه رمزية (البلم) ليتسع وحي الدلالة لمدلول أوسع في مضارب الاستقراء وتضارب التأويل وأنماط مختلفة العلامات تمنحنا الاستدلال والفهم ,وتلك ميزة حاذقة لاختيار الكاتب كبنية رمزية تعبر عن ظاهر المعنى وما يشي باطنها وغمار عمقها الدلالي بمضمون متعدد ومختلف ومتناقض ...
_ (البلم) مفردة عذبة اللفظ , معروفة بأكثر تداولية بين العامة والتي تعني القارب كما سبق توضيحها د. مختار أمين , وأن (للبلم) ثيم متنوعة الإيحاء مفتوحة الآفاق بتعددية تأويلية تجعل لنا حرية الحركة بمنافذ عدة لجمالية الاختيار وتذوق لا محدود تجمع بين المتعة باسترسال المتخيل بفرضيات تأويله والتوهان في تأمل مآسي الحياة في بؤرة القصد , فنرى عبقرية الراوي بمفردة (البلم ) خلقت كون الرواية ,لأنها لفظة تذوقيه تفرض على المتلقي الإمساك بمحاورها فتشدنا لغابة من تكهنات الدلالة بغنى الحدس والتوقع بشعور متغاير لكل دلالة فهي العالم الذي ينبض بحياة الشخوص والآمهم وتلك فنية الاقتدار بغموض يستدركه المتلقي بالمتعة المحفزة لإكمال الرواية بلهفة قارئ يتسلق الفصول لنهاية شغفه ومسك خيط الخاتمة ...
_ نرى للزمان والمكان الأثر الكبير في سمات (البلم) ويشي بتركيبته السائبة والغير مستقرة , متذبذب الاتجاه سريع النكوص , مجرد أداة انتقال فهو قنطرة وقت لمكان سائر يحتضنه زمان غير مقيد بأينية بذات معنوية متغير التكوين ولا واقعي الثبوت والتواجد تلتهمه عواصف الريح كل حين تداعبه موجات المد والجزر تتلاعب به أهواء الطبيعة وجشع سماسرة العبور الغير الشرعي ...
_ ومن (البلم) نستلهم الرؤى الباعثة للأبحار في تفاصيل شتى, وأول ما يتبادر لذهن القارئ برمزية البلم متضادات عدة كونه حالة وسطية بمنتصف الكون بين الأرض والسماء وان كان على سطح الماء يسبح برتابة حياة ...
_ وإيقاع معجمية البلم تثير نشوة القارئ بتحفيزه للانطلاق نحو الطبيعة لأنه من الطبيعة والى الطبيعة ينتمي مهما كانت مادته الصناعية فيثير الشغف نحو الأتساع وأفق ممتد اللقاء بين البحر والسماء بتصور ذهني...
_ كما (للبلم) نغمة مؤثرة توحي للمتلقي رمز المخاطرة والمغامرة ومتعة التنقل والسفر فتتجلى بمخيلته مرجعيات وذكريات كثيرة تراود تأمله, ويبقى البلم بما يوحي من دلالات عميقة جامد الأحاسيس داعي للتشتت والفراق, يشي بقسوة المعاناة واضطرار محير للإنسانية لا خيار ضمان لأرواحهم وأموالهم ...
_ نستشف من كل ما سبق أن (البلم) رمز مكثف بمغزى عميق متناقض بين الأيهام والامل والحقيقة الخيال والحلم والواقع , مفردة بالغة البعد بتشبيه بارع مع أحداث الرواية بتوازن بلاغي لرمزه منها الوطن والمواطن والغربة والمهاجر تتمثل بسماته الطبيعية فالبلم طافي في موضع الغرق لا أمان في ركوبه كالوطن سائب فوق موج صاخب متزعزع الاستقرار متمايل الكفتين , وكذلك الشخوص والتي سنأتي عليها ايضا ,وبساطة مفردة متخمة بالدلالات البعيدة الرؤى وتأويلات عديدة تتجلى في فكر القارئ / المتلقي وتستفز رؤاه...
_ فالعنوان طاقة مكثفة من الإيحاءات ومرتكز رؤى بدلائل عديدة بمختزل معرفي بعيد القصد ومختصر لفكرة عميقة المضمون ببعد إنساني وقصدية حاذقة تحرك المشاعر ,بدراية متمرسة كأنه عاش الحدث في الزمان والمكان عينه لربما , واختيار ذكي للروائي محمد تركي الدعفيس ومن رؤاه تنبيه ودعوة للسلام , كما يدعو المتلقي/ والقارئ للإيغال في بحر رؤياه ومستوى تأثره بثقافته فينسل لتكملة القراءة لآخر الرواية بشوق ومتعة ولهفة معرفية مؤثرة ...
_ وقد لخص الراوي بعد البلم ودلالاته العميقة بحذافيرها المؤثرة والمحرك فحوى الرواية بقول كتبه قبل الولوج للرواية هو :- الى كل الذين نجوا من برزخ الموت , والقصد من برزخ الموت هو البلم وسيط بين عالمين متضادين ومتناقضين بكل ما يطمح اليه الراوي وشخوصه ومغاير لكل ما هد حياتهم من مصائب وويلات حروب ...
_ ومن بلاغة التشبيه برمزية البلم فهو دلالات مفتوحة كما تنهلها معرفة القارئ منها جزء لا حصرا :-
البلم سكن مؤقت لحلم جميل يستيقظ منه فزعا...
البلم وطن لا أحتواء فيه لمواطنيه ...
البلم سلطة الحاكم وأهواءه العبثية ...
البلم مغامرة عابرة وأمنية مجهولة النهاية مجازفة بالحياة بسبب الحروب ...
البلم أسوء مكان يضع قدمه المهاجر به هربا لأماني بسيطة يستحقها في وطنه فلا ينالها باحتوائه, ولربما يخسر كل ما يملك من عائلة وأموال ورصيد عمر...
البلم طيش فكرة ونزق إجباري للهروب من مآسي الاضطهاد لسجن حرية آخر بأراده منفعلة
البلم صيد وفير للمهربين وثروة غير شرعية لعبودية الإنسانية
البلم بكل سماته الدقيقة والمتقلبة كائن حي يجسد معاناة كل مواطن عربي في خريفنا الحاضر .

أجمالي تفاصيل الرواية:-
_ اجتاحت تفاصيل الرواية متارع إحساسي بشوق نهم تابعت ..تفاعلت.. وتأثرت لأنها بسرد رائع سلسل الوقائع .. حقيقي الأحداث , عايشت الشخوص وهربت معهم تسلقت الجبال واجتزت الموانئ وهربت من منافذ الحدود بلهاثهم وخوفهم وتعبهم وعونهم ,مما يعني مدى جمال السرد الأخاذ الذي سرى في الروح مسرى النسيم السلس وتلك براعة الكاتب وهيمنته بخلق شغف للمتلقي واسترساله للمتابعة ...
_ كما أجاد الكاتب بتعريفنا على كل شخصية وهمومها بل معاناتها والوقوف على سيكولوجية قرار كل شخصية بأسباب الرحيل عن وطنه وجذب القارئ بالتعايش مع رحلتهم برؤاه القارئة ...
_ رواية مؤثرة بواقعها المرير واصلت بدموعي حتى احسست بألم كل شخص وخاصة لحظة هروبهم من الوطن عبر منافذ الحدود ,انهمرت دموعي وشهقت انفاسي فتركت القراءة لأستريح ثم عاودت المتعة وتنفست الصعداء حين وصلوا لبر الأمان لكن أي أمان سأشير إليه لاحقا , وبعد خوف وتعب وإرهاق مفزع بغربة ذليلة احتسيتها معهم بمشارب الأسف ومشارف الوجع تقظ نفير تساؤلي وحجم المعاناة يكبر وضياع يتسع أذ لا أمل تحقق ولا سكن مناسب ولا حياة عادية استقبلتهم ...
_ راودني التعب كما التفعهم ,تنقلت بإحساسي المجهد ونبض اللهفة من خوفي عليهم وبنات قلبي يحدثوني بما لا يحمد عقباه , ربي ما الخاتمة ؟ تواصلت بانفعال قارئ استمتع واحب الرواية وكأني واحدة منهم ,والتساؤل يضنيني لما الإنسانية معذبة في أوطاننا منبوذة مهمشة, لما الغربة تأكل أجسادنا والإهمال نصيبنا , ونرى الغرباء ينهبوا خيراتنا طامعين حتى بأرواحنا فلا أمان ولا استقرار بل يحيطنا التشتت تعمنا الفوضى وصخب الحرب يعوم فوق رؤوسنا , وطن نمنحه ولا يمنحنا .. نشتاقه ويبعدنا ..نتمسك به فيلفظنا, متعطش لدمائنا دوما لما !؟ هي الحقيقة لا مفر منها ...

_ كُتِبت الرواية بشكل حديث احتوت على صور شعرية جذابة بتعابير فنية كما ذكر بعض الأقوال قبل بداية الرواية وببساطة المعنى مشعة بالأحاسيس الوجدانية شخصت الهواجس الإنسانية بشمول الحواس ورصدت بإتقان موضوع المأساة في سياق سرد متماسك البنية , جسده الراوي بتنظيم الأحداث بوعي حرفي بترسيمات تقنية للسرد والعبارات , فأرخ حقبة تاريخية مهمة اجتماعية وسياسية ونفسية واقتصادية اقتصت من عمر الكثير من الشعوب تعتبر بصمة حياة لكثير من اوطاننا العربية ...
_ يسرد الراوي على لسان أحد شخوصه والذي تجعله راويا للأحداث ومشاركا بها وهي صيغة تقليدية بقدرة متميزة بالتحرك ما بين الأشخاص والتنقل بالزمان والمكان بمنظور الفلاش باك وهي امكانية متاحة للراوي يسلكها بإمكانياته التقنية بامتداد الماضي ويعاود لحدث الحاضر له ولبعض الشخصيات , مما اضاف طابعا واقعيا لحركة الشخص واستدراك تفكيره فكانت العلاقة وطيدة بين الكاتب والراوي والمتلقي أذ لم تحل عقدة التواصل بخاصية تعبيرية واسلوبية سردية متكاملة...
_ كانت عناوين الفصول موازية للعنوان الرئيسي خلقت شوقا آخر وجمال باذخ بشاعرية العبارة تشي علاماتها بموقف مؤثر أثاره الكاتب لاستفزاز القارئ وشده للمتابعة فتترابط مع نسجة السرد وتفيض الدهشة بأطر عديدة التوقع وكل فصل بانتقالة معينة تخلق التجديد لمرحلة اخرى ووصف مثير للاهتمام يخلق واقعية الحدث ببؤرة موحدة تركزت على فحوى الفكرة فنكون أحدى شخوص الكاتب ...
_ خاتمة الرواية ارتبطت بالعنوان بشكل موثق ليؤكد أهمية الرجوع لسمة العنوان وجذب انتباهنا لموجز إيحاءاته بنغمته الملهمة لقصد الاختيار وقد وفق الكاتب بإيقاع تكراره ليعني اتساقه الأسلوبي بتدرج معزز الخصائص بمستواه التعبيري والسردي
وإن الرواية جديرة بالقراءة لما فيها من موضوع مهم ينصب في صدع أمتنا العربية اضافة لأسلوبها الشيق وفنية تعبير لكثير من الصور الحسية الجميلة بتشكيل رائع جدا متماسك الانسياب وتعتبر جزء من تاريخنا الحاضر ومعاناة الإنسانية من حروب واضطرابات لا طائل لها ...
قراءة إنعام كمونة ...11/11/2018

رؤية انطباعية حول رواية ((البلم)) للأديب الأستاذ/ محمد تركي الدعفيس





قراءة محمد وجيه خويلد
*******************************
إن الأدب مرآة التاريخ، لا يسطره سوى كاتب عاش مدركا مرارة وحرارة أحداث واقعه، استحضر بما أوتي من بصيرة كشف ما غاب عن أذهان الكثيرين من سياسات ومؤامرات، ملمّا بنبض نجاحات وانتصارات أمته وإخفاقاتها، يعاني عثرات أصابت أبناء وطنه وجيله.
يقول مُنظِّر الحروب اللواء كارل فون كلاوفيتز بسلاح فرسان بروسيا إبّان الحروب النابليونية : (الحرب امتداد للسياسة)، كما تعد في دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ذات نتائج كارثية.
وللأدب العالمي ساحات ومساحات واسعة شاسعة تناولت الحديث عن الحروب والصراعات على مدى التاريخ، روايات خالدة تحكي قصص كفاحات الشعوب ضد أعدائها الغاصبين، منذ تناول هوميروس حروب طروادة في ( الإلياذة والأوديسة) وحتى الآن، نذكر على سبيل المثال لا الحصر رواية (الحرب والسلام) للكاتب الروسي العظيم تولستوي تصف الواقع إبّان احتلال نابليون لروسيا القيصيرية، والعديد من الروايات الملحمية أو السير الذاتية، حكت عن الحرب العالمية الثانية أكثر حروب العالم دموية في العصر الحديث، تناولت معاناه البشر نتيجة أطماع السياسات، خلال حروب ماجنة طاحنة ماجنت على البشرية إلا الخراب والدمار والقتل والتعذيب والتشرد.
ولا ننسى العظيم حنا مينا الروائي السوري في روايته ( الشراع والعاصفة)، ترجمها للروسية فلاديمير شاجال، وجاءت بالمرتبة الرابعة عشر ضمن أكثر من مائة رواية عربية.
ولنا أن نذكر بفخرإلى جانب هؤلاء الروائي السوري الأستاذ / محمد تركي الدعفيس، في روايته (البلم) إذ تجلت فيها روح الأديب المتميز، الذي عايش أهوال جيل جديد تماما من الحروب، جنت على وطنه الدمار، حرب عجيبة غريبة غير تقليدية تعددت فيها الأطراف، فمنذ حرب العراق السافرة، وأقول السافرة لأن الغرب وإسرائيل أماط اللثام، وأصبح ظاهرا للعيان، لكنه احتاط لما حدث عندما انكشف أمره وبان للعالم وجهه القبيح، فاستتر وتخفى في سوريا بعدوان جديد وشكل جديد أيضا لم يحدث من قبل.
وكما كان البحر حديث حنا مينا، وعاشقه بل توأمه، يحكي عن الانتصار على الطبيعة القاسية؛ معبرا عن الإرادة البشرية وروح المغامرة، فنحن بصدد رواية تحكي عن هجرة شعب كابد قسوة الحرب وعبثها ومجونها وجنونها، ركب البحر عنوة، علّه يجد في وحشية أعماقه وقاتم زرقته وزمجرة وزئير أمواجه؛ أملا يأخذ بأيديهم نحو الخلاص!


2( البلم )
رواية قصيرة ، يمكن تصنيفها بما يسمى بالأدب التاريخي، لحرفية وتمكن كاتبها من أدواته في تناول الأحداث من قلب الواقع، لتسجيل فترة من تاريخ شعوبنا العربية التي قاست ولازالت تعاني نتائج أهوال حرب طاحنة، وتحكي عمن فرّوا للنجاة من حرب غبية لم تفرّق بين مدفع ومسجد أوكنيسة، بين صاروخ وبستان أومنزل، بين محارب ومسالم، لم ترحم طفلا ولا شيخا ولا امرأة، كثرت فيها الفئات المتصارعة، تقاتل فيها الأخوة حيث تعددت مشاربهم وأهواءهم!
رواية تتناول أحداث مرت بمن حاولوا الفرار من حرب بربرية، فرضتهاعنوة أيادي تلك السياسات القذرة للصهيونية والغرب، متسترة خلف الشعارات والنداءات المكشوفة كذبا وزيفا وخداعا، بحكايت خيالية بعيدة كل البعد عن أرض الواقع عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، دعوات ونداءات لاتحمل إلا مسمّياتها مجردة من كل معانيها، بيّنت تربصات مبيّتة لأيديولوجيات ناصبت عالمنا العربي والإسلامي العداء، فأخذت تنثر بذور الفرقة في صفوفه تصنع له إسلاما جديدا، يخدم مصالحها، حين يذهب أبناؤه شيعا وطوائفا يقاتل بعضهم بعضا بأسهم بينهم شديد!
رواية عايشت وقائع وأحداث رحلة شعب ترك داره وكل ما يملك وراء ظهره محاولا النجاة ، مصورا محاولات شخوصه الحصول على أبسط الاحتياجات الضرورية لأسباب العيش بسلام، تكابد مأساة ضياعها وهي تذوى من بين يديه أدراج الرياح، نتاج حروب مفتعلة مصنوعة (سيناريوهاتها) على أيدي أجهزة المخابرات الغربية بإتقان، فبات منال الاستقرار عنّا بعيداً وأصبحنا كألف كرة جولف شاردة في كل اتجاه، الهجرة إلى شتى البقاع هي السبيل الوحيد أمامها للخلاص، أو ماسماها المبدع الأستاذ محمد الدعفيس في روايته ب (رحلة الهروب).

3
نعم هي رحلة الهروب أو رحلة الشتات، مأساة واقعنا العربي، وصمة عار في جبين الإنسانية، برع في رسم شخوصها عناصرا للوحة زيتية سماؤها ملبدة بغيوم ونوء وسيلتهم للنجاة قشّة (البلم) يحملهم في خضمّ يتربص بهم، وكأنهم الفارين مستجيرين من الرمضاء بالنار، حال لا يقل بلاء عما كانوا فيه وعايشوه وكابدوه.
نجح إلى حد كبير الروائي السوري الكبير الأستاذ محمد الدعفيس أن يثير فينا ما آلت إليه أمتنا اليوم، ويبين تعريضا دون إفصاح أن ما حدث في سوريا هو الحال في العراق واليمن وليبيا نتاج ما يحاك لنا من دسائس وقعنا ضحيتها وضاعت منا أوطاننا فلجأنا للهروب، ضاعت منا لجهلنا وصلفنا وتعنتنا وصار مآلنا لما نحن فيه من بؤس فرقة وشتات، كيف صرنا ضحية مكر حيك بليل ؟ فغدونا كما سوّل إبليس لقابيل ( قاتل ربع سكان العالم ) قتل أخيه هابيل، لكن إبليس اليوم ترك المهمة لأعوانه من بني آدم، فقام أعداء الشعوب بالنفخ في الكير ليقتتل الإخوة، ويضيع منا الحب أسمى معاني الحياة وسر أمانها وسلامتها.

"منذ الصغر وأنا أصل لما أريد لكنني أصل وأنا منهك... بالقدر الذي يجعلني لا أفرح... أنا أريد أن أ صل كي أستريح... فقط أستريح".
« أرنست همنجواي»

ابتدأت الرواية ((البلم )) بوصول المهاجرون إلى إزمير، نقطة البدء لاستكمال الهجرة، تصف لنا بعدسة مصور سينمائي محترف ذلك التكدس الذي بدت عليه البلدة حيث تجمعوا بها، وصفا مختصرا يقتصر على الدخول مباشرة لبيان القضية ( رحيل شعب) عن وطنه، وقد يؤخذ على الرواية تقصيرها في وصف الأمكنة التي مرت بها شخوصها، لكني ألتمس العذر لانشغال الكاتب بتصوير حال الشخوص لا المكان، مهتما بالوصف بدقة حال الرّحل أكثر من الشوارع والميادين، يصف إزمير وقد اصطبغت شوارعها ومقاهيها بروائح الترحال فبدت وكأنها صالة (ترانزيت) كبرى، غاية ما تتمناه النفس فيها ( فراشا من كرتون ) كي تستريح!
اختار ذلك عنوان فصلها الأول فكان موفقا لاختزال الكثير من التفاصيل، كما يحسب له كذلك توفيقه في اختيار عناوين باقي الفصول.
وكنقطة انطلاق نحو المجهول، جرت مساومات وحوارات مع المهربين لركوب البحر نحو المزيد من الاغتراب والابتعاد عن الوطن، وبيان تعرضهم لتجار الحروب، بسرد الواعي المتفهم لكل ما يجري بهم، يخبرنا أن رحيلهم جاء موافقا أمر ربهم لأرضه الواسعة، علهم يجدوا فيها مراغما كثيرة وسعة...

5
نوستالجيا الحياة
لكنني وقد استوقفني كثيرا تنامي التفاعل الدرامي فيما قبيل الفصلين الأخيرين، ليتناول جانبا آخر وقضية أزلية، فقد أدركت ماهو أبعد من ذلك بكثير، وضرب الراوي على وتر هو لبّ الرواية وهدفها الأسمى وما يميّزها عن غيرها من الروايات، الافصاح عن شخصيتين محوريتين ( حياة ونجاح) هما الرمز الأساسي لبيان القضية الأزلية لعلاقة الإنسان وحبه الأرض، وتعلقه بالوطن، وارتباطه بالمصير، (لولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
نوستالجيا الحياة، لفظة استعرتها لأنها تنطوي على أجواء نفسية تدل على الحنين الشديد للوطن، أو الرغبة الجامحة في العودة ورؤية مكان له ذكرى خاصة، أو مرض عصيّ يرتبط بالحب الشديد للمكان/ الوطن في ذهن الغريب.
كثيرا ما نغامر نحو الفاظ نستعيرها لنراود رواية عن دلالتها وما تهدف اليه، فتجولت خلالها حاملا فكرتها للحديث عن رؤيا انقاد لها انطباعي.

6
من رحم تلك المعاناة يتجلى محمد الدعفيس الراوي في العزف على وتر الخلاص، وينبثق سيل العاطفة جياشا نحو الحب، نعم هي نوستالجيا الحياة، طريق المنجاة الوحيد بعيدا عما رآه جليا فيما أدت إليه ترّهات الجهل وهمجية الفكر وسادية رؤية الدماء والتوحش أو مما لاقاه من أهوال رحلة الهروب.
يمهد الكاتب بذكر (حياة) رمزا للوطن فهو حياة الروح ومجرى الدم لا يغادرنا ولو دنت النهاية وفي أحلك الظروف، ولا تبتعد ذكراه عنّا، خالدا يملأ قلوبنا مهما نأت بأجسادنا المسافات.
فيتغنى بشاعرية مرهفة وردية الكلمات ( حياة كانت ترقص بثوب طويل، ترسل ذراعيها جانبا كطائر يهمّ بالتحليق، وتترك للريح أن تغازل ضفائرها، وتبدأ قدماها حركة تبادلية، فتقدم اليمنى تارة على اليسرى، وتفعل العكس تارة أخرى، وحين تنحني ويرسم ذراعها قوسا مثل قمر في لحظة الولادة، تبدو كأنها تحصد سنابل من شوق تنثرها عبر الأثير، تودعها كل الحب الذي عَرَفَته يوماً، وتتركها للريح تأخذها حيث تشتهي )
لقد كان عليه أن يرحل لأثينا، لا يستسلم لليأس كياسر وعمار وكل من سكن الكامب، فانطلق مرتديا ثياب الحنين الى كل رفاق رحلته، يرمز بهم الى أهله وأصحابه من بني وطنه، من تركهم هناك بالأرض الأم، انطلق وفيض من الحزن والأنين ينبثق منه في شاعرية أخاذة حين يقول :
(كانت مغادرة لا تحتاج أكثر من العزيمة والرغبة، وقبل أن يبدأ النهار رحلة نزاع جديد مع العتمة على الفضاءات المحيطة بي، كنت قد عزمت على تركه خلفي، دون أن أقطع الأواصر التي تربطني به، فقد كنت سأشتاق الى ساكنيه كأنهم بعض مني، وأنني سأحتاج للعودة إليه بين الفينة والأخرى)

7

تظهر موهبة الرسم فجأة على مقهى قرب ميدان مونسترياكي، يصف لنا شوارعها الحجرية المتعرجة وصفا يذكرني بأجمل أيام قضيتها بأثينا في أواسط الثمانينات حين كانت ضمن رحلاتي أيام كنت طالبا بكلية الفنون أثناء العطلة الصيفية، وكانت (حياة) حبه الأول وروحه المعلقة بين السماء والأرض، هي أولى لوحاته، فاتحة خير له على أنغام زوربا مستمسكا بالفرح متناسيا آلامه، امتهن الرسم مستمتعا بملامح البشر عله يجد ضالته وغريزة الفنان في داخله علّه يتسلى بوجوه من فارقهم هناك (فارا من حربه) كما قال له عمار لكنه يرى أنه يحاول (أن يفر من سره) على حد قوله!
ثم يعاود حنينه للبحر عائدا ليصف ليل أثينا الماجن، ليجد (نجاح) في طريقه صدفة فينجح في انتشالها من حافة الهاوية، إنها وطنه الجريح يعاني مرارة الغربة وذل الاحتياج الى بنيه يوشك على السقوط !
حياة هناك ونجاح هنا، وجهان لعملة واحدة هي الوطن!
(حياة) وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
(نجاح) صورة ذلك الوطن الجريح الذي تكالب الأكلة على قصعته، راح في عقله الباطن يحاول دفع الضيم عنه في صورة نجاح( كانت أصابعي تضغط على ذراعها تريد أن تخنق كل آثامها....).
تقوده حالة الحب ليصادق البحر وينظر له بعيون غير تلك التي تعودت معاداته (مغرٍ هذا البحر، لا يتخلى أبدا عن غوايته للآخرين، يشجعهم فيلقون إليه أسرارهم دون مواراة أو خشية، ثم يمضون كأنهم تطهروا من آثامهم، بعدما أثقلوه بها...)
وينجح في توفير وظيفة تغنيها عن السقوط، فالوطن شغله الشاغل، ولازالت قضية ما يعانيه الوطن هناك عالقة بباله لا تفارقه.
ما فشل فيه مع حياة، مهاجر فارا بفشله، يعاود الكرّة يملؤه الأمل في الحياة ليعوّض ما فاته، ويكمل من جديد نائيا عن (حافة الهاوية) تملؤه ( رغبة شاهقة ) يبحث عن ( المرافئ مشتهاة) يكتب تقريره موضحا قضيته بجلاء مفصحا عن بؤرة ومحور الرواية :
( يموت الحب إن لم نقاتل لأجله، ويصبح مجرد حكاية من الماضي حين نصير حيادين تجاهه.. وأنا لم أقاتل، بل أمعنت في الهروب، هل سمعت عن حب يحيا بالهروب؟!..لا يكفي أن نتفرج على الحب، علينا أن نعيشه، وأن نحميه وندافع عنه، ولا أظنني فعلت )
يقولها ومن داخله يصرخ :
لن يضيع الحب... وفينا قلب ينبض.
تحية لنبيل هدفك وثاقب فكرك كاتبنا الرائع أ محمد تركي الدعفيس.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
محمد خويلد.. الاسكندرية  15 /11 /2018

الفضاء الروائي، الراوي، الشخصيات – مقاربة نقدية في رواية "البلم" للروائي السوري محمد تركي الدعفيس





منذر الغزالي ـ ألمانيا

ستهتم هذه المقاربة بالمكان الروائي وتطوره ليصبح فضاء روائيا، مخترقا بشخصيات الرواية، ومفعماً بعلاقات تربط بين الشخصيات والمكان، وبين الشخصيات ببعضها في تنامي الحدث الروائي، لما للفضاء الروائي، في هذه الرواية، من أهمية بارزة، بدءاً من عنوانها "البلم" مروراً بأحداثها وسردها الذي عني بالمكان، بشكلٍ خاصّ، عنايةً فائقة.
وسيكون للشخصيات تعريجٌ سريعٌ، وسأقف قليلاً عند رؤيا الكاتب في روايته، مستفيداً من تحليل بعض البنى في الرواية التي تفيد غرضنا.
1.    المكان ، الفضاء الروائي
"يا إلهي من أين نبع كل هؤلاء البشر؟"
بهذه العبارة افتتح الروائي محمد الدعفيس روايته "البلم" ليبدأ بعدها مباشرةً بتسمية المكان ووصفه وتهيئته لدخول الشخصيات وعرض الحدث الروائي. منذ البداية يرسم الكاتب صورةً للمكان، مكتظة، مزدحمة، ممتلئة ببشرٍ فاضوا على الأرصفة وفي المقاهي والساحات، يسندون أجسادهم المنهكة على جدار متاح، أو على حقائبهم.
بدأت الرواية بتحديد المكان الروائي، وهو مكانٌ لافت للنظر، ضيّق، مزدحم، مضطرب، وغير مستقر (الشارع، الأزقة، المطاعم، المقاهي...) كلها أماكن تشير إلى عدم الديمومة وعدم الاستقرار، هي أماكن عبور مؤقت، قد يطول زمنه أو يقصر، لكنها جميعها ليست ثابتة ولا مستقرة. ومن ناحية ثانية، بعبارته الافتتاحية، وتلك الصورة التي توحي بالازدحام والاكتظاظ والإنهاك، يشير إلى حالٍ كان في زمنٍ سابق لزمن الرواية، زمن لم يحدّده الراوي، ولم يشر إليه مباشرةً، ذلك المكان هو الذي انتقل منه هؤلاء البشر الذين اكتظّت بهم شوارع إزمير ومطاعمها ومقاهيها، وتلك الحال هي التي جعلت هذا النهر من البشر يفيض إلى شوارعها وأزقتها وساحاتها، بمشهد بؤس وقهر، كأن الأرض نبعت بهم، ليشير إلى بؤسٍ أشدّ وقهر أعظم، جعل هذه الجموع تفرّ إلى بؤسٍ وشقاءٍ آخر، رغم قسوته، صار هدفاً لهم.
باختراق الراوي (همام) للمكان بدأ بإحياء علاقات إنسانية بينه وبين المكان، وبالتدريج بين المكان وشخصيات الرواية الأخرى التي قدّمها تباعاً، ليتنامى، باختراقها المكان، الحدث الروائي، وتتشكل خيوط الحبكة، وصولاً إلى زمنٍ في الرواية تدخل فيها الشخصيات كلها، ويكتمل المجتمع الروائي، ويتحول المكان إلى فضاء روائي ممتلئ بشخصيات متباينة البناء شكلاً ومضموناً، بعلاقاتٍ مترابطة، يجمعها هدفٌ واحد هو الخلاص.
نقطة البداية في بناء شبكة العلاقات بين شخصيات الرواية كانت حادثة السيارة، حين يكتشف أحد رجال المهرّب بأن هناك اشخاصاً زائدين في السيارة، وبدأ يجمعهم المصير المشترك لأول مرة، تتنامى هذه الشبكة وتصل إلى ذروتها في رحلة البلم التي جمعت كل شخصيات الرواية الفاعلة، حيث يصبح مصير الفرد مساوياً لمصير الجماعة في رحلةٍ لا خيار لهم فيها إلا الاتحاد.
في كلّ مكانٍ جديدٍ يصفه الراوي، وردود أفعال الشخصيات ومشاعرهم، يضيف حالةً شعوريّةّ أو فكريّةّ تعبّر عن القهر أو الإحساس بالسجن أو الذل والإنهاك المطلق الذي يصل حد تساوي الموت والحياة، فالأماكن مغلقة: "حافلة سيارة شرطة، صالة رياضية، فندق..."، ضيقة، توحي بالضيق الداخلي، والإحساس بالسجن وانعدام الحرية: "شاحنة صغيرة لها صندوق معدني مقفل... بدأنا نتكدّس وهي تضيق بنا" ص17
حتى حين يكون المكان مفتوحاً كالبحر، فإن توصيفه من قبل الراوي يعكس عليه ثنائية التسلّط/القهر، والإحساس بالحصار. لاحظ دلالات الكلمات ضمن الأقواس في وصف الراوي للخليج.. "أغراها دفء ما بعد العصر بالخروج نحو شاطئٍ قريب، شكّله (فضّ) البحر (لبكارة) المدينة الحالمة التي بدا أنها (هربت) منه (فغاصت) عميقاً في البرّ مشكّلاً خليجاً (سوّرها) غرباً وشمالاً.... تاركاً لها أن (تهرب) نحو المشرق كلما فكّرت في التمدّد أكثر... وحده صوت الموج كان يعلو حين (يجلد) صخور الشاطئ أسفلهما، كأنه يريد إعلان (سطوته على المكان)" ص26
لاحظ أيضاً دلالات الاتجاهات غرباً، شرقاً، وإسقاطاتها السياسية، هي رؤية الكاتب يرويها همام في مقطعٍ وصفيّ موظّفٍ أشدّ التوظيف.

2. المكان، صورة قهر الإنسان
المكان، في الرواية، هو صورة مشاعر الشخصيات، والحيّز الذي تدور فيه سلوكاتهم وفي كل تلك الأمكنة تتسع دائرة القهر ومعها تشتد قبضة السيطرة، بتنوع أشكال هذا القهر، وهذه السيطرة، لتشمل قهر الطبيعة، وقهر السلطة، ممثلة برجال الشرطة والأحزاب اليونانية، وقهر الإنسان للإنسان ممثلا بالمهرّب أبو عرب ورجاله، وقهر الفقر الذي دفع نجاح إلى القبول بزواجٍ لم يطل، وزواجٍ آخر انتهى قبل أن يبدأ، وقهر العادات والعجز عن مواجهتها ممثلا بقصة حياة وهمام، حياة التي أضاعها همام نتيجة ضعفه وعجزه عن مواجهة تقاليد بالية تقول "بنت العم لابن العم".
وقد تم تجسيد هذا القهر وهذا التسلط في مراحل مختلفة من تنامي الحدث الروائي، وسيرورة رحلة النزوح منذ بدايتها في شوارع إزمير، وبذاءة وجشع المهرب ورجاله، واستكانة المهاجرين، وقبولهم لأوامرهم.
وصف المكان من قبل الرواي لم يكن مجرّد حليةٍ تزيبنية، بل شكّل إدماجه في الحدث الروائي بعداً آخر وسّع من مدلولات الحدث، وصف، بشكلٍ لا مباشر وذكي، أحوال الشخصيات، وأحوال الوطن الذي هاجروا منه، وأحوال المجتمعات التي تنقّلوا فيها.
في مستهلّ الرواية كان المكان شارعاً ومقاهٍ ومطاعم، وساحاتٍ، ومساجد، وبشرٍ يتدفّقون، يفترشون الساحات... صورةٌ لا تختلف عن صورة أيّ مدينةٍ في سوريا. لولا أن الضرورة الروائية تستدعي تسمية المدينة، لتشابه علينا المكان، فإضافةً إلى وصف مجتمع تركيا (إزمير في الرواية) التي لا تختلف كثيراً عن أي مدينة شرقية، فهي تعطي الاستمرار بين زمنين، حاضر هو ما يجري على لسان الراوي، وماضٍ، هو ما يوحي به تشابه المدن والعادات. والشخصيات في هذا المكان لا تختلف كثيراً عن شخصياتٍ يعرف أشباهها أهل البلد، وأساليبهم لا تختلف عن أساليب تجار الظلّ، الذبن يتاجرون في كلّ شيء: سماسرة ، وبيع وشراء، وأكاذيب، واختباء وتلاعب بمصير البشر.. هو القهر متشابهٌ في المجتمعات الشرقية، قهر سماسرة وتجارة بطرق مذلّة لكرامة الآنسان.
الأماكن كلها غريبة عن الشخصيات، وإن اخترقتها وتحركت فيها، ومارست حياتها، إلا أنها أماكن غريبةٌ عابرةٌ مؤقتة (شارع، أزقّة، فندق، مطعم، مقهى...)، أو أماكن عبور: "سيارة، شاحنة، بلم، عبّارة..."، حتى حين يكون المكان ثابتاً يكون الأشخاص داخله في حركةٍ قلقة متوتّرة، مرحلةٌ تسلمهم إلى مرحلة، في طريق هجرةٍ من الموت إلى حلمٍ لم يصل نهايته في الرواية، لتستمر حالة اللااستقرار وحالة الغربة وحالة البرزخ التي تمرّ بها الشعوب ، حين تأكل أوطانها الحروب.
والأماكن مثل الأشخاص، قلقةٌ، لا ثبات فيها، لذلك كثر حضور الحقيبة في السرد، سيما في المشاهد الأولى من الرواية، كأن الحقيبة هي وطن المهاجر، يحمل فيها ذكرياته، ومأساته، وآماله وأحلامه.
وكما يصوّر المكان حال الأشخاص، فهو عند الروائي الذي يدرك هدفه، ويعرف كيف يوظّف أدواته حتى طاقتها القصوى، صورة المجتمع، يرسم من خلال وصف المكان مساحة الحرية في بلدان الشرق. لنتذكر وصف الراوي للفندق الذي التقى فيه أبو عرب: غرفٌ ممتلئةٌ بنزلاءٍ على فرشٍ تفوح منها روائح العرق الآدميّ، تنفتح على صالونٍ، أشبه بصورة حبس: الغرف زنازين، والنزلاء سجناء، وأبو عرب المهرّب بجلسته وطاولته وسجائره كأنه محقق.
ومن خلال صورة المكان أيضاً يرسم لنا الراوي قهراً آخر في بلدان أكثر تحضّراً، ساحاتها واسعة، مفتوحة للشمس والهواء، لكنها، رغم اتساعها، محاطةٌ، دون اللاجئين، بأسوارٍ وحرّاسٍ من رجال الشرطة. هو قهر آخر، قهرٌ تنظّمه قوانين حكومات، وتحكمه سياسات دول، قهرٌ تتنافس في استثماره أحزاب سياسية في لعبةٍ ديمقراطية، لا علاقة لهؤلاء المقهورين بها.
أو يرسم صورة قهرٍ نفسيٍّ أشدّ، يجري في شوارع أثينا المظلمة، التي تخفي عن العيون صراعاً أخلاقيا فرضه قهر الفقر وغياب السند الإنساني، حين وقفت نجاح، في زاوية مظلمة من أحد شوارع أثينا تصارع ذاتها بين بيع جسدها من أجل بضعة دولارات، أو الحفاظ على كرامتها الإنسانية، وهي لا تملك ثمن غذائها، في صراعٍ حادٍّ، أنقذها منه همام في لحظة ثورة داخلية، انتصر فيها لضعفه، ورمّم خسارته لحياة بإنقاذ نجاح.
يصل توظيف المكان في وصف حالة القهر والذل الإنساني إلى أقصى مداه، في ذينك المشهدين المتناقضين في ساحةٍ من ساحات اليونان، وفدٌ أمميّ يطلق شعارات التعاطف مع المهاجرين، تحت وميض الفلاشات وحراس الأمن، وفي مكانٍ قريب، يسقط عمار الكفيف بين قاذورات الحمامات، وأخته الصغرى لا تملك إلا البكاء وهي تزيل عنه بكفها بعض ما علق به.
ويعكس المكان القهر في أقسى صوره وأكثفها خلال رحلة البلم، حيث يظهر همام، ذاك الذي جعله ظرف طارئ قائداً لقاربٍ، مكتظٍ بجموعٍ خائفة، تتقاذفه أمواج البحر، متحكماً ومسؤولاً، بنفس الوقت، عن حياة العشرات، هم مجتمع الرواية، بالمعنى الحقيقي للتحكم، وجعل هؤلاء المقهورين المكتظين بخوفهم في قارب مطاطي مهترئ تكسّر أسفله ، راضين بقهرهم، متشبثين به لأنه السبيل الوحيد لنجاتهم.


3. شخصيات الرواية، قلق المصير
شخصيات الرواية قلقة، خائفة، تتميز جميعها بالخضوع، بل بضرورة الخضوع، بعد أن أصبح الخضوع هو أحد السبل الضرورية لتجاوز الموت.
ومن جهةٍ أخرى هناك شخصيات قاهرة مستبدة جعلها الظرف المأزوم ذات سلطاتٍ واسعة، يصفها الراوي بأوصافٍ تدلّ على التفاهة والوضاعة والانتهازية الجشعة، والمتاجرة بمعاناة المقهورين.
سميحة امرأة متعلمة، واعية، لم يصفها الراوي مباشرةً، لكنه وصف أفعالها، وحركتها في مجتمع الرواية، وحرصها الشديد على ولديها، ولعبة المفردات التي تلعبها معهما، وكذلك زوجها رضوان الذي اكتفى الراوي بوصف أفعاله ودوره مع زوجته تجاه ولديهما اللذين كادا يغرقان.
عمار، الشاب الضرير الذي ينطق بالحكمة، في سقوطه الفاجع في قاذورات الحمامات تبلغ المأساة أقصاها، في ذلك المشهد الذي لا ينسى... أيّ مصيرٍ ذاك الذي انتهت إليه الحكمة!
ياسر، الشاب الجامعي، المثقف، الذي اتخذ من السخرية فلسفةً في مواجهة الحياة، انتهى متكوراً على كآبته، يعاقر سجائره بنهمٍ وصمتٍ متأمّل.
أما حياة، التي لم يكن لها حضور في الزمن الحاضر للرواية، فهي شخصيةٌ رئيسيةٌ، ومحرّكة أساسية من محركات الحدث، هي أزمة الراوي، أزمة ضميره، وأزمة حبه، وأقول بثقة أزمة انتماء... في المقاطع التي يسترجع فيها همام ذكريات علاقته بحياة، لا تظهر الا في مجتمع طفولي، جميل، أو يحضر معها بيت الجد او حكايات الجدة، والزهر والشبابيك المفتوحة. إن حياة الرواية، هي حياة الوطن، حين يكون آمناً، هادئاً، بلا خوفٍ ولا قهر، الناس فيه يعشقون، وينتمون لبيت الجدّ، وأحاديث الجدات، ويفرحون بالزهر، وطن شبابيكه مشرعةٌ على هواءٍ نظيفٍ، تعبق من جنباته رائحة الطفولة والبراءة والحب.
نجاح، هي الوجه الآخر لحياة، "صارت نجاح بالنسبة لي حياةً أخرى....." ص99
صورة أخرى للقهر الإنساني، هي ضحية مجتمع يحكمه الفقر والجهل وغياب القيم الإنسانية. ونجاح، وقصتها في الرواية هي عنصر التوازن في نفس الراوي، شكّلت، بإنقاذه لها، انتصاره على ذاته، وانتصاراً لحياة، التي أضاعها، وبذلك كانت عنصر التوازن النفسي في روايةٍ حملت في كلّ أحداثها وشخصياتها هزيمة الإنسان وقهره وذلّه، فكانت نقطة الضوء في عتم واقع الرواية.
شخصية حياة هي المعادل الرمزيّ للوطن الحلم، وشخصية نجاح هي المعادل الموضوعيّ لشخصية حياة، وإنقاذ همام لنجاح هو المعادل اللاشعوري لإنقاذه حياة، هو انتصاره على ضعفه وخوفه وخضوعه. إذا كانت حياة وطناً جميلاً ضاع، أو أضاعه الراوي بعجزه أو ضعفه، فإن نجاح هي جذوة الروح وثورتها، وانتصارها لوطنٍ، رغم قسوة ما يحدث فيه، يستحق أن نتجاوز لا مبالاتنا وعجزنا، كي ننتصر له وننقذه.
كان فصلا الختام في الرواية هما فصلان لحياة ونجاح، لأنهما وجهان للوطن: حياة، التي أضاعها الراوي، فرحٌ وحبٌّ وطفولة وبيت الجد وحكايا الجدات، ونجاح هي استعادة نفسٍ مهزومة، وانتصارٌ على الذات، وتعويضٌ عن خسارةٍ كبيرة، هي شعلة الأمل التي تركها الكاتب في ختام روايته، بتلك النهاية المفتوحة، التي أراد أن يبعث من خلال حضورهما، شيئاً من الامل واراحة القارئ الذي صارع على مدى مئة صفحةٍ سابقة من مشاعر ضاغطة على روحه، النافذة التي تركها مواربةً ليدخل من خلالها نسيم الأمل.

4. الرؤيا بين الراوي والروائي
همام، لسان الروائي، وحامل رؤاه، والناقل لأحداث الرواية، هو راوٍ اختار موقعه من الخارج، اقصد من خارج الشخصيات، اكتفى بتصوير حالها وسلوكاتها وتعبيراتها وحركاتها وأقوالها، دون الدخول إلى أعماقها، لذلك لم نجد في الرواية، إلا بالنادر، أيّ حديثٍ داخليّ أو مونولوجا لأي شخصية، باستثناء الراوي، ولم نقرأ في السرد أفعالا من قبيل "فكر، تساءل، قال لذاته، همس في داخله...." إلى آخر تلك الأفعال التي تنقل البؤرة من الخارج الى الداخل.
مهما حاول الراوي أن يبدو حياديا في سرده للرواية إلا أن توصيفه للشخصيات ، وردة فعله وأفعال الآخرين التي يرويها لنا تفضح تلك الحيادية الظاهرية، فللراوي موقف نستشفه في وصفه للأماكن والشخصيات واختياره لمواقف بعينها لأفعال الشخصيات الأخرى ليرويها لنا، كلها تعبر عن انحياز الراوي وموقفه مما يجري، وهذا بدوره موقف الكاتب الروائي المستتر خلف الراوي. ومواقف الراوي، وأقواله، أو أقوال الشخصيات التي ينقلها لنا، هي أفكار الكاتب ورؤاه. نقرأ بعضاً من هذه الرؤى:
"نحن مجرّد أوراق يلعبون بها حين يريدون" ياسر ص20
"نحن تماماً كالماء لا نملك من أمرنا إلا التدفق إذا فتح (الصنبور) أو الاحتباس إذا أغلق" ياسر ص 21
"يبدو أن لكلٍّ منا حربه التي يفرّمنها" عمار الكفيف ص60
"متى كنتم ترون الأشياء الجلية التي أمامكم؟" ياسر ص63
"كان المكان يتحوّل إلى غول يلتهم ضحكاتنا وطموحاتنا، ويقتلنا بكل الهدوء المتاح واحداً إثر الآخر، يتصيّد أجملنا بلا استعجال، وينتقي بكل العناية أولئك الأقدر على نثر التفاؤل في دروب الآخرين" همام ص91
"كيف يمكن لمن عبر برزخ الموت أن يقرّر بملء إرادته العودة إلى نقطة الصفر؟" همام ص93
"يموت الحب إن لم نقاتل لأجله، ويصبح مجرّد حكايةٍ من الماضي حين نصير حياديين تجاهه..." همام ص116
5. العنوان، وطن مكسور
رغم أن البلم هو عنوان الرواية، إلا أنّ زمن حضوره الروائي قصير جداً لم يتعدّ أربع صفحات، يحضر فيه جميع الشخصيات الفاعلة في الحدث الروائي، كثّف فيها مشاهد الاضطهاد والخضوع، من جهة، ومن جهة أخرى السطوة والتحكم بمصير الركاب.
إن البلم ليس مجرّد مكانٌ روائيّ يحمل المهاحرين، في رحلة تحفّها المخاطر في كلّ حين. هو وطن المقهورين، الخائفين، الفارين من قهرٍ أشد. هو الأمل المتبقي لهم، الحلم الذي سيحملهم في برزخ الانتقال من حال إلى حال، حلم العبور إلى الحلم.
كذلك هو أي إنسان جعلته الصدفة يمسك بقبضة المحرك، فيصبح متحكما بحياة وموت الجموع الخائفة، الراضية بتسلطه، في خيار وضعتهم فيه معادلة قاسية بين موت أو خضوع.
في زمن الحروب يصبح الوطن قارباً مطاطياً صغيراً، يضيق بركابه، بدأت جوانبه تتكسّر، تتقاذفه الأمواج، للحياة فيه فرصة وحيدة، تحكمها حركة الموج، ومزاج من يمسك دفة المحرك.
في أوطان الحروب يصبح من تقوده الصدفة، أو القوة إلى قبضة المحرّك آمراً ناهياً، يملك في قبضته موت الناس وحياتهم، ويصبح الجميع خائفين، يجلسون على حافة الموت، متكومين فوق بعضهم، غارقين حتى أعناقهم، والموت يمشي معهم في كل موجة..
في مجتمعات الحروب يصبح القهر اعتيادياً، ضرورة للبقاء، ويصبح السكوت على خراب القارب، واجباً، كي لا يغرق ويغرقهم. تصبح أي كلمة أو حركة في غير محلها سبباً للموت، ويصبح البشر المحشورون فيه، الغارقون حتى أعناقهم، مجتمعين على مصيرٍ واحد، ممتنين لأوامر الممسك بالقبضة، راضين بسطوته وتسلّطه، لأنهم، في لحظات الموت المحدق، يتوهّمون أن من يمسك بيديه الدفّة يمسك معها موتهم وحياتهم، والإذعان لأوامره هو الوسيلة الوحيدة للحياة.

منذر الغزالي
بون 12/11/2018