قراءة إنعام كمونة
بما أن العنوان هو هوية النص
وجدلية الترابط بينهما تقنية الإيحاء لتحفيز ذهن القارئ لفهم المضمون وبذا التأثير
يستشف الدلالة بوعي أجمالي عما يتوقعه وما يستجلي من باطنه اشارات وعلامات من رؤى
لتأويله.
_ لذا سأتطرق للعنوان وما يكتنفه
من سيمائية أيقاع موشي بعدة ثيمات تنضح من شفافية الفكرة وعمق الرؤى بما تتبناه
رمزية (البلم) ليتسع وحي الدلالة لمدلول أوسع في مضارب الاستقراء وتضارب التأويل
وأنماط مختلفة العلامات تمنحنا الاستدلال والفهم ,وتلك ميزة حاذقة لاختيار الكاتب
كبنية رمزية تعبر عن ظاهر المعنى وما يشي باطنها وغمار عمقها الدلالي بمضمون متعدد
ومختلف ومتناقض ...
_ (البلم) مفردة عذبة اللفظ ,
معروفة بأكثر تداولية بين العامة والتي تعني القارب كما سبق توضيحها د. مختار أمين
, وأن (للبلم) ثيم متنوعة الإيحاء مفتوحة الآفاق بتعددية تأويلية تجعل لنا حرية
الحركة بمنافذ عدة لجمالية الاختيار وتذوق لا محدود تجمع بين المتعة باسترسال
المتخيل بفرضيات تأويله والتوهان في تأمل مآسي الحياة في بؤرة القصد , فنرى عبقرية
الراوي بمفردة (البلم ) خلقت كون الرواية ,لأنها لفظة تذوقيه تفرض على المتلقي
الإمساك بمحاورها فتشدنا لغابة من تكهنات الدلالة بغنى الحدس والتوقع بشعور متغاير
لكل دلالة فهي العالم الذي ينبض بحياة الشخوص والآمهم وتلك فنية الاقتدار بغموض
يستدركه المتلقي بالمتعة المحفزة لإكمال الرواية بلهفة قارئ يتسلق الفصول لنهاية
شغفه ومسك خيط الخاتمة ...
_ نرى للزمان والمكان الأثر الكبير
في سمات (البلم) ويشي بتركيبته السائبة والغير مستقرة , متذبذب الاتجاه سريع
النكوص , مجرد أداة انتقال فهو قنطرة وقت لمكان سائر يحتضنه زمان غير مقيد بأينية
بذات معنوية متغير التكوين ولا واقعي الثبوت والتواجد تلتهمه عواصف الريح كل حين
تداعبه موجات المد والجزر تتلاعب به أهواء الطبيعة وجشع سماسرة العبور الغير
الشرعي ...
_ ومن (البلم) نستلهم الرؤى
الباعثة للأبحار في تفاصيل شتى, وأول ما يتبادر لذهن القارئ برمزية البلم متضادات
عدة كونه حالة وسطية بمنتصف الكون بين الأرض والسماء وان كان على سطح الماء يسبح
برتابة حياة ...
_ وإيقاع معجمية البلم تثير نشوة
القارئ بتحفيزه للانطلاق نحو الطبيعة لأنه من الطبيعة والى الطبيعة ينتمي مهما
كانت مادته الصناعية فيثير الشغف نحو الأتساع وأفق ممتد اللقاء بين البحر والسماء
بتصور ذهني...
_ كما (للبلم) نغمة مؤثرة توحي
للمتلقي رمز المخاطرة والمغامرة ومتعة التنقل والسفر فتتجلى بمخيلته مرجعيات
وذكريات كثيرة تراود تأمله, ويبقى البلم بما يوحي من دلالات عميقة جامد الأحاسيس
داعي للتشتت والفراق, يشي بقسوة المعاناة واضطرار محير للإنسانية لا خيار ضمان
لأرواحهم وأموالهم ...
_ نستشف من كل ما سبق أن (البلم)
رمز مكثف بمغزى عميق متناقض بين الأيهام والامل والحقيقة الخيال والحلم والواقع ,
مفردة بالغة البعد بتشبيه بارع مع أحداث الرواية بتوازن بلاغي لرمزه منها الوطن
والمواطن والغربة والمهاجر تتمثل بسماته الطبيعية فالبلم طافي في موضع الغرق لا
أمان في ركوبه كالوطن سائب فوق موج صاخب متزعزع الاستقرار متمايل الكفتين , وكذلك
الشخوص والتي سنأتي عليها ايضا ,وبساطة مفردة متخمة بالدلالات البعيدة الرؤى
وتأويلات عديدة تتجلى في فكر القارئ / المتلقي وتستفز رؤاه...
_ فالعنوان طاقة مكثفة من
الإيحاءات ومرتكز رؤى بدلائل عديدة بمختزل معرفي بعيد القصد ومختصر لفكرة عميقة
المضمون ببعد إنساني وقصدية حاذقة تحرك المشاعر ,بدراية متمرسة كأنه عاش الحدث في
الزمان والمكان عينه لربما , واختيار ذكي للروائي محمد تركي الدعفيس ومن رؤاه
تنبيه ودعوة للسلام , كما يدعو المتلقي/ والقارئ للإيغال في بحر رؤياه ومستوى
تأثره بثقافته فينسل لتكملة القراءة لآخر الرواية بشوق ومتعة ولهفة معرفية مؤثرة
...
_ وقد لخص الراوي بعد البلم
ودلالاته العميقة بحذافيرها المؤثرة والمحرك فحوى الرواية بقول كتبه قبل الولوج
للرواية هو :- الى كل الذين نجوا من برزخ الموت , والقصد من برزخ الموت هو البلم
وسيط بين عالمين متضادين ومتناقضين بكل ما يطمح اليه الراوي وشخوصه ومغاير لكل ما
هد حياتهم من مصائب وويلات حروب ...
_ ومن بلاغة التشبيه برمزية البلم
فهو دلالات مفتوحة كما تنهلها معرفة القارئ منها جزء لا حصرا :-
البلم سكن مؤقت لحلم جميل يستيقظ
منه فزعا...
البلم وطن لا أحتواء فيه لمواطنيه
...
البلم سلطة الحاكم وأهواءه العبثية
...
البلم مغامرة عابرة وأمنية مجهولة
النهاية مجازفة بالحياة بسبب الحروب ...
البلم أسوء مكان يضع قدمه المهاجر
به هربا لأماني بسيطة يستحقها في وطنه فلا ينالها باحتوائه, ولربما يخسر كل ما
يملك من عائلة وأموال ورصيد عمر...
البلم طيش فكرة ونزق إجباري للهروب
من مآسي الاضطهاد لسجن حرية آخر بأراده منفعلة
البلم صيد وفير للمهربين وثروة غير
شرعية لعبودية الإنسانية
البلم بكل سماته الدقيقة والمتقلبة
كائن حي يجسد معاناة كل مواطن عربي في خريفنا الحاضر .
أجمالي تفاصيل الرواية:-
_ اجتاحت تفاصيل الرواية متارع
إحساسي بشوق نهم تابعت ..تفاعلت.. وتأثرت لأنها بسرد رائع سلسل الوقائع .. حقيقي
الأحداث , عايشت الشخوص وهربت معهم تسلقت الجبال واجتزت الموانئ وهربت من منافذ
الحدود بلهاثهم وخوفهم وتعبهم وعونهم ,مما يعني مدى جمال السرد الأخاذ الذي سرى في
الروح مسرى النسيم السلس وتلك براعة الكاتب وهيمنته بخلق شغف للمتلقي واسترساله
للمتابعة ...
_ كما أجاد الكاتب بتعريفنا على كل
شخصية وهمومها بل معاناتها والوقوف على سيكولوجية قرار كل شخصية بأسباب الرحيل عن
وطنه وجذب القارئ بالتعايش مع رحلتهم برؤاه القارئة ...
_ رواية مؤثرة بواقعها المرير
واصلت بدموعي حتى احسست بألم كل شخص وخاصة لحظة هروبهم من الوطن عبر منافذ الحدود
,انهمرت دموعي وشهقت انفاسي فتركت القراءة لأستريح ثم عاودت المتعة وتنفست الصعداء
حين وصلوا لبر الأمان لكن أي أمان سأشير إليه لاحقا , وبعد خوف وتعب وإرهاق مفزع
بغربة ذليلة احتسيتها معهم بمشارب الأسف ومشارف الوجع تقظ نفير تساؤلي وحجم
المعاناة يكبر وضياع يتسع أذ لا أمل تحقق ولا سكن مناسب ولا حياة عادية استقبلتهم
...
_ راودني التعب كما التفعهم ,تنقلت
بإحساسي المجهد ونبض اللهفة من خوفي عليهم وبنات قلبي يحدثوني بما لا يحمد عقباه ,
ربي ما الخاتمة ؟ تواصلت بانفعال قارئ استمتع واحب الرواية وكأني واحدة منهم
,والتساؤل يضنيني لما الإنسانية معذبة في أوطاننا منبوذة مهمشة, لما الغربة تأكل
أجسادنا والإهمال نصيبنا , ونرى الغرباء ينهبوا خيراتنا طامعين حتى بأرواحنا فلا
أمان ولا استقرار بل يحيطنا التشتت تعمنا الفوضى وصخب الحرب يعوم فوق رؤوسنا , وطن
نمنحه ولا يمنحنا .. نشتاقه ويبعدنا ..نتمسك به فيلفظنا, متعطش لدمائنا دوما لما
!؟ هي الحقيقة لا مفر منها ...
_ كُتِبت الرواية بشكل حديث احتوت
على صور شعرية جذابة بتعابير فنية كما ذكر بعض الأقوال قبل بداية الرواية وببساطة
المعنى مشعة بالأحاسيس الوجدانية شخصت الهواجس الإنسانية بشمول الحواس ورصدت
بإتقان موضوع المأساة في سياق سرد متماسك البنية , جسده الراوي بتنظيم الأحداث
بوعي حرفي بترسيمات تقنية للسرد والعبارات , فأرخ حقبة تاريخية مهمة اجتماعية
وسياسية ونفسية واقتصادية اقتصت من عمر الكثير من الشعوب تعتبر بصمة حياة لكثير من
اوطاننا العربية ...
_ يسرد الراوي على لسان أحد شخوصه
والذي تجعله راويا للأحداث ومشاركا بها وهي صيغة تقليدية بقدرة متميزة بالتحرك ما بين
الأشخاص والتنقل بالزمان والمكان بمنظور الفلاش باك وهي امكانية متاحة للراوي
يسلكها بإمكانياته التقنية بامتداد الماضي ويعاود لحدث الحاضر له ولبعض الشخصيات ,
مما اضاف طابعا واقعيا لحركة الشخص واستدراك تفكيره فكانت العلاقة وطيدة بين
الكاتب والراوي والمتلقي أذ لم تحل عقدة التواصل بخاصية تعبيرية واسلوبية سردية
متكاملة...
_ كانت عناوين الفصول موازية
للعنوان الرئيسي خلقت شوقا آخر وجمال باذخ بشاعرية العبارة تشي علاماتها بموقف
مؤثر أثاره الكاتب لاستفزاز القارئ وشده للمتابعة فتترابط مع نسجة السرد وتفيض
الدهشة بأطر عديدة التوقع وكل فصل بانتقالة معينة تخلق التجديد لمرحلة اخرى ووصف
مثير للاهتمام يخلق واقعية الحدث ببؤرة موحدة تركزت على فحوى الفكرة فنكون أحدى
شخوص الكاتب ...
_ خاتمة الرواية ارتبطت بالعنوان
بشكل موثق ليؤكد أهمية الرجوع لسمة العنوان وجذب انتباهنا لموجز إيحاءاته بنغمته
الملهمة لقصد الاختيار وقد وفق الكاتب بإيقاع تكراره ليعني اتساقه الأسلوبي بتدرج
معزز الخصائص بمستواه التعبيري والسردي
وإن الرواية جديرة بالقراءة لما
فيها من موضوع مهم ينصب في صدع أمتنا العربية اضافة لأسلوبها الشيق وفنية تعبير
لكثير من الصور الحسية الجميلة بتشكيل رائع جدا متماسك الانسياب وتعتبر جزء من
تاريخنا الحاضر ومعاناة الإنسانية من حروب واضطرابات لا طائل لها ...
قراءة إنعام كمونة ...11/11/2018