الاثنين، 19 نوفمبر 2018

رؤية انطباعية حول رواية ((البلم)) للأديب الأستاذ/ محمد تركي الدعفيس





قراءة محمد وجيه خويلد
*******************************
إن الأدب مرآة التاريخ، لا يسطره سوى كاتب عاش مدركا مرارة وحرارة أحداث واقعه، استحضر بما أوتي من بصيرة كشف ما غاب عن أذهان الكثيرين من سياسات ومؤامرات، ملمّا بنبض نجاحات وانتصارات أمته وإخفاقاتها، يعاني عثرات أصابت أبناء وطنه وجيله.
يقول مُنظِّر الحروب اللواء كارل فون كلاوفيتز بسلاح فرسان بروسيا إبّان الحروب النابليونية : (الحرب امتداد للسياسة)، كما تعد في دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ذات نتائج كارثية.
وللأدب العالمي ساحات ومساحات واسعة شاسعة تناولت الحديث عن الحروب والصراعات على مدى التاريخ، روايات خالدة تحكي قصص كفاحات الشعوب ضد أعدائها الغاصبين، منذ تناول هوميروس حروب طروادة في ( الإلياذة والأوديسة) وحتى الآن، نذكر على سبيل المثال لا الحصر رواية (الحرب والسلام) للكاتب الروسي العظيم تولستوي تصف الواقع إبّان احتلال نابليون لروسيا القيصيرية، والعديد من الروايات الملحمية أو السير الذاتية، حكت عن الحرب العالمية الثانية أكثر حروب العالم دموية في العصر الحديث، تناولت معاناه البشر نتيجة أطماع السياسات، خلال حروب ماجنة طاحنة ماجنت على البشرية إلا الخراب والدمار والقتل والتعذيب والتشرد.
ولا ننسى العظيم حنا مينا الروائي السوري في روايته ( الشراع والعاصفة)، ترجمها للروسية فلاديمير شاجال، وجاءت بالمرتبة الرابعة عشر ضمن أكثر من مائة رواية عربية.
ولنا أن نذكر بفخرإلى جانب هؤلاء الروائي السوري الأستاذ / محمد تركي الدعفيس، في روايته (البلم) إذ تجلت فيها روح الأديب المتميز، الذي عايش أهوال جيل جديد تماما من الحروب، جنت على وطنه الدمار، حرب عجيبة غريبة غير تقليدية تعددت فيها الأطراف، فمنذ حرب العراق السافرة، وأقول السافرة لأن الغرب وإسرائيل أماط اللثام، وأصبح ظاهرا للعيان، لكنه احتاط لما حدث عندما انكشف أمره وبان للعالم وجهه القبيح، فاستتر وتخفى في سوريا بعدوان جديد وشكل جديد أيضا لم يحدث من قبل.
وكما كان البحر حديث حنا مينا، وعاشقه بل توأمه، يحكي عن الانتصار على الطبيعة القاسية؛ معبرا عن الإرادة البشرية وروح المغامرة، فنحن بصدد رواية تحكي عن هجرة شعب كابد قسوة الحرب وعبثها ومجونها وجنونها، ركب البحر عنوة، علّه يجد في وحشية أعماقه وقاتم زرقته وزمجرة وزئير أمواجه؛ أملا يأخذ بأيديهم نحو الخلاص!


2( البلم )
رواية قصيرة ، يمكن تصنيفها بما يسمى بالأدب التاريخي، لحرفية وتمكن كاتبها من أدواته في تناول الأحداث من قلب الواقع، لتسجيل فترة من تاريخ شعوبنا العربية التي قاست ولازالت تعاني نتائج أهوال حرب طاحنة، وتحكي عمن فرّوا للنجاة من حرب غبية لم تفرّق بين مدفع ومسجد أوكنيسة، بين صاروخ وبستان أومنزل، بين محارب ومسالم، لم ترحم طفلا ولا شيخا ولا امرأة، كثرت فيها الفئات المتصارعة، تقاتل فيها الأخوة حيث تعددت مشاربهم وأهواءهم!
رواية تتناول أحداث مرت بمن حاولوا الفرار من حرب بربرية، فرضتهاعنوة أيادي تلك السياسات القذرة للصهيونية والغرب، متسترة خلف الشعارات والنداءات المكشوفة كذبا وزيفا وخداعا، بحكايت خيالية بعيدة كل البعد عن أرض الواقع عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، دعوات ونداءات لاتحمل إلا مسمّياتها مجردة من كل معانيها، بيّنت تربصات مبيّتة لأيديولوجيات ناصبت عالمنا العربي والإسلامي العداء، فأخذت تنثر بذور الفرقة في صفوفه تصنع له إسلاما جديدا، يخدم مصالحها، حين يذهب أبناؤه شيعا وطوائفا يقاتل بعضهم بعضا بأسهم بينهم شديد!
رواية عايشت وقائع وأحداث رحلة شعب ترك داره وكل ما يملك وراء ظهره محاولا النجاة ، مصورا محاولات شخوصه الحصول على أبسط الاحتياجات الضرورية لأسباب العيش بسلام، تكابد مأساة ضياعها وهي تذوى من بين يديه أدراج الرياح، نتاج حروب مفتعلة مصنوعة (سيناريوهاتها) على أيدي أجهزة المخابرات الغربية بإتقان، فبات منال الاستقرار عنّا بعيداً وأصبحنا كألف كرة جولف شاردة في كل اتجاه، الهجرة إلى شتى البقاع هي السبيل الوحيد أمامها للخلاص، أو ماسماها المبدع الأستاذ محمد الدعفيس في روايته ب (رحلة الهروب).

3
نعم هي رحلة الهروب أو رحلة الشتات، مأساة واقعنا العربي، وصمة عار في جبين الإنسانية، برع في رسم شخوصها عناصرا للوحة زيتية سماؤها ملبدة بغيوم ونوء وسيلتهم للنجاة قشّة (البلم) يحملهم في خضمّ يتربص بهم، وكأنهم الفارين مستجيرين من الرمضاء بالنار، حال لا يقل بلاء عما كانوا فيه وعايشوه وكابدوه.
نجح إلى حد كبير الروائي السوري الكبير الأستاذ محمد الدعفيس أن يثير فينا ما آلت إليه أمتنا اليوم، ويبين تعريضا دون إفصاح أن ما حدث في سوريا هو الحال في العراق واليمن وليبيا نتاج ما يحاك لنا من دسائس وقعنا ضحيتها وضاعت منا أوطاننا فلجأنا للهروب، ضاعت منا لجهلنا وصلفنا وتعنتنا وصار مآلنا لما نحن فيه من بؤس فرقة وشتات، كيف صرنا ضحية مكر حيك بليل ؟ فغدونا كما سوّل إبليس لقابيل ( قاتل ربع سكان العالم ) قتل أخيه هابيل، لكن إبليس اليوم ترك المهمة لأعوانه من بني آدم، فقام أعداء الشعوب بالنفخ في الكير ليقتتل الإخوة، ويضيع منا الحب أسمى معاني الحياة وسر أمانها وسلامتها.

"منذ الصغر وأنا أصل لما أريد لكنني أصل وأنا منهك... بالقدر الذي يجعلني لا أفرح... أنا أريد أن أ صل كي أستريح... فقط أستريح".
« أرنست همنجواي»

ابتدأت الرواية ((البلم )) بوصول المهاجرون إلى إزمير، نقطة البدء لاستكمال الهجرة، تصف لنا بعدسة مصور سينمائي محترف ذلك التكدس الذي بدت عليه البلدة حيث تجمعوا بها، وصفا مختصرا يقتصر على الدخول مباشرة لبيان القضية ( رحيل شعب) عن وطنه، وقد يؤخذ على الرواية تقصيرها في وصف الأمكنة التي مرت بها شخوصها، لكني ألتمس العذر لانشغال الكاتب بتصوير حال الشخوص لا المكان، مهتما بالوصف بدقة حال الرّحل أكثر من الشوارع والميادين، يصف إزمير وقد اصطبغت شوارعها ومقاهيها بروائح الترحال فبدت وكأنها صالة (ترانزيت) كبرى، غاية ما تتمناه النفس فيها ( فراشا من كرتون ) كي تستريح!
اختار ذلك عنوان فصلها الأول فكان موفقا لاختزال الكثير من التفاصيل، كما يحسب له كذلك توفيقه في اختيار عناوين باقي الفصول.
وكنقطة انطلاق نحو المجهول، جرت مساومات وحوارات مع المهربين لركوب البحر نحو المزيد من الاغتراب والابتعاد عن الوطن، وبيان تعرضهم لتجار الحروب، بسرد الواعي المتفهم لكل ما يجري بهم، يخبرنا أن رحيلهم جاء موافقا أمر ربهم لأرضه الواسعة، علهم يجدوا فيها مراغما كثيرة وسعة...

5
نوستالجيا الحياة
لكنني وقد استوقفني كثيرا تنامي التفاعل الدرامي فيما قبيل الفصلين الأخيرين، ليتناول جانبا آخر وقضية أزلية، فقد أدركت ماهو أبعد من ذلك بكثير، وضرب الراوي على وتر هو لبّ الرواية وهدفها الأسمى وما يميّزها عن غيرها من الروايات، الافصاح عن شخصيتين محوريتين ( حياة ونجاح) هما الرمز الأساسي لبيان القضية الأزلية لعلاقة الإنسان وحبه الأرض، وتعلقه بالوطن، وارتباطه بالمصير، (لولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
نوستالجيا الحياة، لفظة استعرتها لأنها تنطوي على أجواء نفسية تدل على الحنين الشديد للوطن، أو الرغبة الجامحة في العودة ورؤية مكان له ذكرى خاصة، أو مرض عصيّ يرتبط بالحب الشديد للمكان/ الوطن في ذهن الغريب.
كثيرا ما نغامر نحو الفاظ نستعيرها لنراود رواية عن دلالتها وما تهدف اليه، فتجولت خلالها حاملا فكرتها للحديث عن رؤيا انقاد لها انطباعي.

6
من رحم تلك المعاناة يتجلى محمد الدعفيس الراوي في العزف على وتر الخلاص، وينبثق سيل العاطفة جياشا نحو الحب، نعم هي نوستالجيا الحياة، طريق المنجاة الوحيد بعيدا عما رآه جليا فيما أدت إليه ترّهات الجهل وهمجية الفكر وسادية رؤية الدماء والتوحش أو مما لاقاه من أهوال رحلة الهروب.
يمهد الكاتب بذكر (حياة) رمزا للوطن فهو حياة الروح ومجرى الدم لا يغادرنا ولو دنت النهاية وفي أحلك الظروف، ولا تبتعد ذكراه عنّا، خالدا يملأ قلوبنا مهما نأت بأجسادنا المسافات.
فيتغنى بشاعرية مرهفة وردية الكلمات ( حياة كانت ترقص بثوب طويل، ترسل ذراعيها جانبا كطائر يهمّ بالتحليق، وتترك للريح أن تغازل ضفائرها، وتبدأ قدماها حركة تبادلية، فتقدم اليمنى تارة على اليسرى، وتفعل العكس تارة أخرى، وحين تنحني ويرسم ذراعها قوسا مثل قمر في لحظة الولادة، تبدو كأنها تحصد سنابل من شوق تنثرها عبر الأثير، تودعها كل الحب الذي عَرَفَته يوماً، وتتركها للريح تأخذها حيث تشتهي )
لقد كان عليه أن يرحل لأثينا، لا يستسلم لليأس كياسر وعمار وكل من سكن الكامب، فانطلق مرتديا ثياب الحنين الى كل رفاق رحلته، يرمز بهم الى أهله وأصحابه من بني وطنه، من تركهم هناك بالأرض الأم، انطلق وفيض من الحزن والأنين ينبثق منه في شاعرية أخاذة حين يقول :
(كانت مغادرة لا تحتاج أكثر من العزيمة والرغبة، وقبل أن يبدأ النهار رحلة نزاع جديد مع العتمة على الفضاءات المحيطة بي، كنت قد عزمت على تركه خلفي، دون أن أقطع الأواصر التي تربطني به، فقد كنت سأشتاق الى ساكنيه كأنهم بعض مني، وأنني سأحتاج للعودة إليه بين الفينة والأخرى)

7

تظهر موهبة الرسم فجأة على مقهى قرب ميدان مونسترياكي، يصف لنا شوارعها الحجرية المتعرجة وصفا يذكرني بأجمل أيام قضيتها بأثينا في أواسط الثمانينات حين كانت ضمن رحلاتي أيام كنت طالبا بكلية الفنون أثناء العطلة الصيفية، وكانت (حياة) حبه الأول وروحه المعلقة بين السماء والأرض، هي أولى لوحاته، فاتحة خير له على أنغام زوربا مستمسكا بالفرح متناسيا آلامه، امتهن الرسم مستمتعا بملامح البشر عله يجد ضالته وغريزة الفنان في داخله علّه يتسلى بوجوه من فارقهم هناك (فارا من حربه) كما قال له عمار لكنه يرى أنه يحاول (أن يفر من سره) على حد قوله!
ثم يعاود حنينه للبحر عائدا ليصف ليل أثينا الماجن، ليجد (نجاح) في طريقه صدفة فينجح في انتشالها من حافة الهاوية، إنها وطنه الجريح يعاني مرارة الغربة وذل الاحتياج الى بنيه يوشك على السقوط !
حياة هناك ونجاح هنا، وجهان لعملة واحدة هي الوطن!
(حياة) وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
(نجاح) صورة ذلك الوطن الجريح الذي تكالب الأكلة على قصعته، راح في عقله الباطن يحاول دفع الضيم عنه في صورة نجاح( كانت أصابعي تضغط على ذراعها تريد أن تخنق كل آثامها....).
تقوده حالة الحب ليصادق البحر وينظر له بعيون غير تلك التي تعودت معاداته (مغرٍ هذا البحر، لا يتخلى أبدا عن غوايته للآخرين، يشجعهم فيلقون إليه أسرارهم دون مواراة أو خشية، ثم يمضون كأنهم تطهروا من آثامهم، بعدما أثقلوه بها...)
وينجح في توفير وظيفة تغنيها عن السقوط، فالوطن شغله الشاغل، ولازالت قضية ما يعانيه الوطن هناك عالقة بباله لا تفارقه.
ما فشل فيه مع حياة، مهاجر فارا بفشله، يعاود الكرّة يملؤه الأمل في الحياة ليعوّض ما فاته، ويكمل من جديد نائيا عن (حافة الهاوية) تملؤه ( رغبة شاهقة ) يبحث عن ( المرافئ مشتهاة) يكتب تقريره موضحا قضيته بجلاء مفصحا عن بؤرة ومحور الرواية :
( يموت الحب إن لم نقاتل لأجله، ويصبح مجرد حكاية من الماضي حين نصير حيادين تجاهه.. وأنا لم أقاتل، بل أمعنت في الهروب، هل سمعت عن حب يحيا بالهروب؟!..لا يكفي أن نتفرج على الحب، علينا أن نعيشه، وأن نحميه وندافع عنه، ولا أظنني فعلت )
يقولها ومن داخله يصرخ :
لن يضيع الحب... وفينا قلب ينبض.
تحية لنبيل هدفك وثاقب فكرك كاتبنا الرائع أ محمد تركي الدعفيس.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
محمد خويلد.. الاسكندرية  15 /11 /2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق