استيقظت متأخرا هذا الصباح.. لا شيء لدي لأفعله، تقلبت كثيرا في
سريري، أمسكت هاتفي المحمول، استعرضت الفيسبوك ورسائل الواتس آب وقرأت كثيرا من تغريدات
تويتر.. كلها أشياء فقدت طزاجتها، كأنما مررت عليها عشرات المرات.
أعدته فوق الخزانة الجانبية، وعدت للتقلب.. أزحت طرف الستارة القريبة،
الطقس في الخارج غائم قليلا، هذا عهده كل يوم تقريبا حتى ونحن في منتصف الصيف..
أحيانا تتمرد بعض الأيام وتذهب بعيدا في سخونة أجوائها فتجعل الوضع أكثر كآبة
ومللا.
غير بعيد، كانت أصوات تصلني متقطعة، زوجتي وبعض
الأقارب في اتصال مرئي.. الضحكات تعلو وتخفت، وزوجتي تفر بالهاتف بعيدا نحو الشرفة
حتى لا توقظني الأصوات الضاحكة، لكنني سبقتها بالصحو.
أتجه إلى الحمام، وأغرق تحت موزع المياه.. أحرص أن يكون الماء باردا
قليلا، ربما ينعش أطرافي المتكاسلة.. أستمر أطول من المعتاد، مستندا بكلتا كفي على
الجدار، والماء يغسلني من أعلى رأسي حتى ظاهر قدمي.
أخرج متكاسلا، تستقبلني زوجتي بكوب من النسكافيه ونظرة اعتذار، وارتمي
على الكنبة القريبة.. أغوص فيها بهدوء واسترخاء.
تزحف كفي ببطء شديد، تبحث عن الريموت كونترول، وأقلب قنوات
التلفزيون.. نيتفلكس تعرض قائمة جديدة من الأفلام، أبحث في التقديمات التعريفية
لها.. لا شيء يغريني بالمتابعة.. ألقي الريموت في مكانه.. أعود إلى الفيسبوك..
يطالعني منشور لصديق يبدأه بقوله "يتأكلني القهر".. أشتم اللغة، وأقفل
الهاتف.
أخرج إلى الشرفة، أحدق في الأشجار القريبة، والمباني البعيدة.. كتل
صامتة، أتساءل: ترى ما هي الحيوات التي تخفيها خلفها؟، لكن صمتها المطبق يبقى
ثقيلا، لا يشي بأي إجابة أو حتى إيحاء.
أعود إلى الاستلقاء على الأريكة، أغفو قليلا.. وحين أصحو، يبدو كل شيء
هادئا هدوء الموت، كأنما أوقفوا الحياة في المنزل.
أتململ قليلا، ثم أنهض، أرشق وجهي بقليل من الماء البارد، وأخرج إلى
الشرفة.. ثمة نسمة باردة قليلا.. جلست على الكرسي الهزاز.. أدرت اسطوانة في قارئ
الاسطوانات.. انطلق صوت سيد درويش "أنا هويت وانتهيت، وليه بقى لوم
العزول".
الأنوار القليلة القريبة التي كانت تبدو هنا وهناك في الأبنية القليلة
القريبة بدأت تُنطفأ مثل نجوم غادرت مداراتها.. واستمر كرسي الهزاز في تردده الخافت
للأمام والخلف، واستمرت الاسطوانة تكرر "أحبه حتى في الخصام".
محمّد تركي الدعفيس: النقد العربي أسير مجاملات وشللية
الرواية نت – لندن
يشدّد الروائي السوري محمّد تركي الدعفيس على أنّ الرواية عالم مواز، محكوم بالشغف، وبالتجديد، وبالقدرة على استيعاب كثير من الفنون.
وفي حواره مع الرواية نت يعبّر مبدع “البلم” عن قناعته بأنّ الرواية استوعبت على الدوام التغيرات والأزمات والمشكلات التي مرت بها المجتمعات، ورصدت أبعادها على المستويات كافة..
في هذا الحوار يصرّح الدعفيس عن بعض آرائه في قضايا ومسائل أدبية وفنية وحياتية..
– كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟
بداهة نحن نكتب لنُقرأ، فلا أثر للكتابة إن لم تقرأ.
من هنا، فإنني أرى القارئ صديقاً قريباً.. يسعدني أن أضع يدي على كتفه، ونمضي معاً، أحدثه بحميمية، وأنثر أمامه عالماً من الأسرار والحكايات التي تزخر بها الرواية، كأنما أبوح بها لنفسي، أشعر حين تطحن الأحداث إحدى شخصياتي بألمه، أكاد أسمع دقات قلبه تتعالى وتضطرب حين تهوي قذيفة في رواية فوق رؤوس بعض الشخوص أو قريبا منهم.
كثيراً ما أحببت أن أخاطب القارئ دون وسيط، ودون وصي، وحين ينغمس في ورق الرواية، أشعر كأنني أخذته من عزلته، وأقحمته شيئاً فشيئاً في ذاك العالم المخطوط حتى يصبح جزء منه، وليس مجرد متفرج عليه.
–ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟
كل رواية قرأتها كان لها أثرها، سواء لجهة التحريض، أو الامتناع، أو حتى وزيادة رصيد وثراء التجربة.. ثمة أعمال تستفزك، تشعر وأنت تطوي صفحتها الأخيرة أنها شحنتك بطاقة إضافية لاقتحام عالم الكتابة من جديد، على الرغم من أنك لم تفارقه..
وثمة أعمال تجعلك تطلق زفرة وتعلن: “أف، يا لهذا الوقت المهدر!”.
وهناك أعمال كثيرة يمكن للمرء أن يذكرها على مستوى الإثراء، ربما في طليعتها تلك الواقعية السحرية التي أنتجتها أميركا اللاتينية، وروايات كثيرة تمنيت لو نسجت على منوالها، دون أن أقول أنني أتمنى لو كتبتها، فلكل منا عالمه وتجربته، ولكل منا رؤيته الخاصة للتفاصيل والأشياء المحيطة، ولكل منا خيالاته وإبداعه، ولا يمكن لأحد تقمّص الآخر، وإلا لتطابقنا، والتطابق ليس من مصلحة الأدب، وهو يتنافى أساسا مع الإبداع.
– ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟
ثمة روايات تمنيت لو أحطت بعوالمها وأنتجت أشياء على غرارها، مثل “شرق المتوسط” لعبدالرحمن منيف بكل ما حملته من توصيف لواقع الإنسان العربي التعيس، و”عرس الزين” للطيب صالح بكل تفاصيلها المفعمة بالحياة والصخب والبساطة والغموض والتصوف في توليفة بدت في الظاهر قصة بسيطة للغاية لكنها في العمق رصدت كثيرا من التحولات، و”اللاز” للطاهر وطار بكل تمردها على التقنيات السردية التقليدية واقتحامها الجريء للتجريب والحداثة في السرد الروائي، “وفرانكشتاين في بغداد” لأحمد السعداوي من حيث توظيفها لشخصية شهيرة من عالم الرعب في واقع مدينة تعاني شبح تفجيرات إرهابية أودت بحياة كثيرين.
– هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟
أما بالنسبة لمسألة الندم، أو التسرع في طباعة أي من رواياتي، فلا أعتقد أن للندم مساحة، والندم هو خطأ ثان نرتكبه كما قالت أحلام مستغانمي، خصوصاً حين تصبح الأشياء التي فعلناها خلف ظهورنا، ولا نعود قادرين على تعديلها.
حاولت عبر أربع روايات، أزعم أنها تكاد تشكل رباعية متصلة منفصلة أن أرصد وقائع وطن، وذلك بكل التحولات التي عاشها خلال العقد الأخير، وأزعم أنني انحزت خلالها للضحايا، للإنسان المطحون، لذاك الهامشي الذي لا ينتبه إليه الآخرون، لذاك الذي فقد كل شيء وعاش دهراً من الهروب نحو أمان لم يطَله.
– كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟
الصورة في الغالب انعكاس للواقع كما هو، أما الرواية فهي عالم مواز، محكوم بالشغف، وبالتجديد، وبالقدرة على استيعاب كثير من الفنون.
ومن هنا فِإن الرواية التي ازدهت وانتشرت في السنوات الأخيرة، على الرغم من شيوع ثقافة الصورة، قادرة على الصمود لسنوات أخرى طويلة وعديدة.
الرواية استوعبت على الدوام التغيرات والأزمات والمشكلات التي مرت بها المجتمعات، ورصدت أبعادها على المستويات كافة.. هذه الأزمات لن تتوقف، وتلك المشكلات لن تتبخر، والرواية بعالمها ترصد كل ذاك، ليس ككتابة تأريخية أرشيفية يخالطها الملل، وإنما كعوالم متحركة نابضة بالحياة.
ربما الإشكالية التي تطرح في هذا الجانب تتعلق بالحاجة إلى متسع الوقت ووافر الفراغ، وهما رفاهيتان تضيقان شيئاً فشيئاً، لكن الأمر ليس سوداوياً بالكليّة، فلن يعدم القارئ الوسيلة لاقتناص ما يتاح منهما لمطالعة رواية.
– كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟
النقد متشابك بشكل أو بآخر مع أزمة الثقافة والحريات في العالم العربي.. وهو بعض المشكلة أيضاً، إذ توقف عند التجارب الأدبية المعروفة، وأحجم عن تناول التجارب الإبداعية أو حتى الأعمال الجديدة.. كأنه يعمل وفق المنطق التجاري الذي يفضل “اللعب في المضمون”، ولذا بات عدم تناوله للتجارب الجديدة تقليداً راسخا أكثر منه تقاعساً.
النقد العربي أسير مجاملات، وشللية، وبدل أن يلقي الضوء على الجديد، وأن يسهم في تقديمه وقراءة مآلاته، وبدل أن يسلط الضوء على تجارب وكتّاب جدد، استمر يحفر في أعماق الأعمال القديمة محاولاً أن يستجر منها عنوة ما لم يعد يحتمل الاستجرار.
– إلى أيّ حدّ تعتبر أنّك تجربتك أخذت حقها من النقد؟
لا أعتقد أن أعمالي نالت ما أراها تستحقه من النقد، ربما باستثناء محدود وضيق جدا لرواية “البلم” التي تناولتها دراسات نقدية عدة من نقاد في بلدان عربية وأخرى أجنبية، لكن عموم التجربة ما زالت تحتاج مزيداً من البحث والتنقيب، خصوصاً وأن رواياتي الأربعة تنشد إلى بعضها بعضا بخيط يجعلها من قبيل السلسلة الروائية، حتى وإن بدت لوهلة متباعدة المواضيع والشخصيات والأماكن.
قراءة التجربة كاملة، لم تأخذ حقها، وربما ما زالت بحاجة لناقد لديه القدرة والوقت والرغبة في نفض الغبار، ونسيان مسألة “اللعب في المضمون”، وخوض غمار تجربة لا تقتصر على عمل واحد فقط.
– كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟
أظن أن هذا السؤال يرتبط بتعاضد شديد مع سابقه.. فمسألة تسويق الأعمال ما زالت قاصرة جدا جدا.. بعض منشورات، وقراءة نقدية أو اثنتين، وحفل توقيع ضيق لا تسوق للعمل ولا تكشف جوهره.
نحن بحاجة إلى آليات جديدة تضع الأعمال حيث تستحق.. آلية غير تلك المبتذلة التي يضطر لها البعض عبر إهداء أعماله هنا وهناك، وربما تصادف من يقول في حقها كلمة عادلة، أو لا تصادف.
اليوم بعض مشاهير مواقع التواصل أنجح في تسويق أعمالهم ممن يملكون فكراً ويقدمون تجربة روائية ثرية.
في أحد معارض الكتاب الدولية اصطف أمام أحد المشاهير مئات من المراهقين ليحظوا بتوقيعه على كتابه الذي يفتقر لأبسط مكونات الكتاب، فيما لم يكن أمام المنصة المجاورة التي كان يجلس إليها أحد الأعلام المفكرين سوى بضعة قراء لا يتجاوزون عدد أصابع الكفين معا.. هذا خلل كبير، وهو ليس مسؤولية المؤلف والروائي فقط، بل هو خلل ومسؤولية عامة أطرافها كذلك الجهات المعنية بالثقافة في أوطاننا، ووسائل الإعلام، والناشر، والناقد، وحتى القارئ.
هي مسؤولية جماعية للاحتفاء بما ومن يستحق، وليس الاحتفاء بالمعارف والمقربين والأصدقاء.
– هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟
كانت دموع لصبية في مقتبل العمر.. تحدث بقسوة وألم عن حادثة غرق كادت تودي بحياتها في رحلة الهروب نحو أوروبا.. رحلة ظنت أنها ستضع من خلالها أوجاع الحرب خلف ظهرها، لكنها لم تكن تدرك أننا نحمل أوطاننا في دواخلنا حيث ذهبنا.
كانت دموعها حارقة بقدر تهدج الصوت في حنجرتها.. حتى ارتجاف أصابعها أثناء تذكرها لتلك الحادثة كان محرضا لكتابة رواية.. حملت الرواية عنوان “البلم”..
– إلى أيّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟
في اعتقادي تلعب دوراً كبيراً في إظهار أعمال، وإخفاء أخرى.. الجوائز بمثابة ترويج لهذه الرواية أو تلك، خصوصاً في زمن لا يواكب فيه النقد الإنتاج الروائي، ولا يستطيع أن يقدمه كما يستحق.
الجائزة ليس تتويجاً لعمل روائي، وإنما ترويج له، وقد نختلف كثيراً مع كثير من الأعمال التي نالت جوائز من هنا أو هناك، لكننا لا يمكن أن ننكر أن الفوز بجائزة يشكل تسويقا جيدا للروائي، وسيثبت لك هذا من خلال مطالعة القراءات النقدية وأرقام المبيعات لأعماله قبل أو بعد فوزه بالجائزة.
الجائزة بمثابة بوصلة، تدفعك للقراءة لهذا أو ذاك حين تدخل مكتبة وتتساوى أمامك الأعمال والأسماء.. حينئذ فقط، تقودك الجائزة لاختيار كاتب وإهمال آخر، على الرغم من أن هذا الآخر قد يكون أكثر عمقا وأمتع أسلوباً.
– كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟
ما يزال قاصراً جدا، وما يزال يمضي بانتقائية ومزاجية، ونتيجة لعلاقة تربط الكاتب بالمترجم ليس إلا، أو نتيجة لاعتماد الرواية المترجمة مواضيع مثيرة حتى لو كانت سطحية.
الترجمة تُتخذ حالياً إطارا للمباهاة، لكنها في حقيقتها يجب أن تتناول العمل الذي يطرح بعداً إنسانياً، حتى يكون مهماً للآخر، أو تتناول عملاً يغوص في بيئته فيقدمها للآخر ليتعرف عليها هذا الآخر، أما ما يحدث اليوم من ترجمات فما يزال قاصرا عن تحقيق أي من هذين الهدفين، بدليل أن عددا لا بأس به من الأعمال التي ترجمت لا ترقى لأن تقدم نموذجا للرواية العربية بتجربتها الواسعة.
– يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو الحد من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟
ثمة كثير من الرقابات تمارس على أعمالنا، بعضها ينبع حتى من داخلنا دون وعي منا، ونتيجة تراكمات كثيرة عشناها على مدى سنوات محكومين بما تسميه السلطة (اجتماعية أو سياسية أو دينية) “الصواب”.. ثمة روايات طبعت وسمح بتداولها فقط لأن كتابها تحايلوا بتعويم المكان والزمان فيها، بدل الإشارة بوضوح إليهما، وذلك لأنهم شعروا سلفاً أنها لن تمر وتنشر إلا عبر هذا التحايل.
أنا مع نسف الرقابات غير الذاتية.. أي رقابة لا تعتمد على وعي الكاتب ورؤيته لعالمه هي رقابة متسلطة، تريد أن تفرض عليه أطرأً تتنافى مع حالته كمبدع.. ثمة رواية رفضت يوماً من جهة رقابية بمبرر قال “لا شيء وطني في هذه الرواية”.. وأتساءل هنا عن معايير الوطنية التي تقصدها تلك الجهة، وهل يفترض بالعمل الإبداعي الروائي أن يكون خطابا أيديولوجيا مثلا.
– ما هي رسالتك لقرّائك؟
فقط.. اقرؤوا.
ـــــــــــــ
* محمد تركي الدعفيس: روائي وصحافي، مواليد سورية 1966، له في الرواية: “الرصاصة تقتل مرتين” ـ “قوافل الريح” ـ “هي والراهب” – “البلم”. أعمال أخرى مطبوعة: “رحيل” مجموعة قصصية، “لا وقت للحلم” قصص قصيرة جدا.
بما أن العنوان هو هوية النص
وجدلية الترابط بينهما تقنية الإيحاء لتحفيز ذهن القارئ لفهم المضمون وبذا التأثير
يستشف الدلالة بوعي أجمالي عما يتوقعه وما يستجلي من باطنه اشارات وعلامات من رؤى
لتأويله.
_ لذا سأتطرق للعنوان وما يكتنفه
من سيمائية أيقاع موشي بعدة ثيمات تنضح من شفافية الفكرة وعمق الرؤى بما تتبناه
رمزية (البلم) ليتسع وحي الدلالة لمدلول أوسع في مضارب الاستقراء وتضارب التأويل
وأنماط مختلفة العلامات تمنحنا الاستدلال والفهم ,وتلك ميزة حاذقة لاختيار الكاتب
كبنية رمزية تعبر عن ظاهر المعنى وما يشي باطنها وغمار عمقها الدلالي بمضمون متعدد
ومختلف ومتناقض ...
_ (البلم) مفردة عذبة اللفظ ,
معروفة بأكثر تداولية بين العامة والتي تعني القارب كما سبق توضيحها د. مختار أمين
, وأن (للبلم) ثيم متنوعة الإيحاء مفتوحة الآفاق بتعددية تأويلية تجعل لنا حرية
الحركة بمنافذ عدة لجمالية الاختيار وتذوق لا محدود تجمع بين المتعة باسترسال
المتخيل بفرضيات تأويله والتوهان في تأمل مآسي الحياة في بؤرة القصد , فنرى عبقرية
الراوي بمفردة (البلم ) خلقت كون الرواية ,لأنها لفظة تذوقيه تفرض على المتلقي
الإمساك بمحاورها فتشدنا لغابة من تكهنات الدلالة بغنى الحدس والتوقع بشعور متغاير
لكل دلالة فهي العالم الذي ينبض بحياة الشخوص والآمهم وتلك فنية الاقتدار بغموض
يستدركه المتلقي بالمتعة المحفزة لإكمال الرواية بلهفة قارئ يتسلق الفصول لنهاية
شغفه ومسك خيط الخاتمة ...
_ نرى للزمان والمكان الأثر الكبير
في سمات (البلم) ويشي بتركيبته السائبة والغير مستقرة , متذبذب الاتجاه سريع
النكوص , مجرد أداة انتقال فهو قنطرة وقت لمكان سائر يحتضنه زمان غير مقيد بأينية
بذات معنوية متغير التكوين ولا واقعي الثبوت والتواجد تلتهمه عواصف الريح كل حين
تداعبه موجات المد والجزر تتلاعب به أهواء الطبيعة وجشع سماسرة العبور الغير
الشرعي ...
_ ومن (البلم) نستلهم الرؤى
الباعثة للأبحار في تفاصيل شتى, وأول ما يتبادر لذهن القارئ برمزية البلم متضادات
عدة كونه حالة وسطية بمنتصف الكون بين الأرض والسماء وان كان على سطح الماء يسبح
برتابة حياة ...
_ وإيقاع معجمية البلم تثير نشوة
القارئ بتحفيزه للانطلاق نحو الطبيعة لأنه من الطبيعة والى الطبيعة ينتمي مهما
كانت مادته الصناعية فيثير الشغف نحو الأتساع وأفق ممتد اللقاء بين البحر والسماء
بتصور ذهني...
_ كما (للبلم) نغمة مؤثرة توحي
للمتلقي رمز المخاطرة والمغامرة ومتعة التنقل والسفر فتتجلى بمخيلته مرجعيات
وذكريات كثيرة تراود تأمله, ويبقى البلم بما يوحي من دلالات عميقة جامد الأحاسيس
داعي للتشتت والفراق, يشي بقسوة المعاناة واضطرار محير للإنسانية لا خيار ضمان
لأرواحهم وأموالهم ...
_ نستشف من كل ما سبق أن (البلم)
رمز مكثف بمغزى عميق متناقض بين الأيهام والامل والحقيقة الخيال والحلم والواقع ,
مفردة بالغة البعد بتشبيه بارع مع أحداث الرواية بتوازن بلاغي لرمزه منها الوطن
والمواطن والغربة والمهاجر تتمثل بسماته الطبيعية فالبلم طافي في موضع الغرق لا
أمان في ركوبه كالوطن سائب فوق موج صاخب متزعزع الاستقرار متمايل الكفتين , وكذلك
الشخوص والتي سنأتي عليها ايضا ,وبساطة مفردة متخمة بالدلالات البعيدة الرؤى
وتأويلات عديدة تتجلى في فكر القارئ / المتلقي وتستفز رؤاه...
_ فالعنوان طاقة مكثفة من
الإيحاءات ومرتكز رؤى بدلائل عديدة بمختزل معرفي بعيد القصد ومختصر لفكرة عميقة
المضمون ببعد إنساني وقصدية حاذقة تحرك المشاعر ,بدراية متمرسة كأنه عاش الحدث في
الزمان والمكان عينه لربما , واختيار ذكي للروائي محمد تركي الدعفيس ومن رؤاه
تنبيه ودعوة للسلام , كما يدعو المتلقي/ والقارئ للإيغال في بحر رؤياه ومستوى
تأثره بثقافته فينسل لتكملة القراءة لآخر الرواية بشوق ومتعة ولهفة معرفية مؤثرة
...
_ وقد لخص الراوي بعد البلم
ودلالاته العميقة بحذافيرها المؤثرة والمحرك فحوى الرواية بقول كتبه قبل الولوج
للرواية هو :- الى كل الذين نجوا من برزخ الموت , والقصد من برزخ الموت هو البلم
وسيط بين عالمين متضادين ومتناقضين بكل ما يطمح اليه الراوي وشخوصه ومغاير لكل ما
هد حياتهم من مصائب وويلات حروب ...
_ ومن بلاغة التشبيه برمزية البلم
فهو دلالات مفتوحة كما تنهلها معرفة القارئ منها جزء لا حصرا :-
البلم سكن مؤقت لحلم جميل يستيقظ
منه فزعا...
البلم وطن لا أحتواء فيه لمواطنيه
...
البلم سلطة الحاكم وأهواءه العبثية
...
البلم مغامرة عابرة وأمنية مجهولة
النهاية مجازفة بالحياة بسبب الحروب ...
البلم أسوء مكان يضع قدمه المهاجر
به هربا لأماني بسيطة يستحقها في وطنه فلا ينالها باحتوائه, ولربما يخسر كل ما
يملك من عائلة وأموال ورصيد عمر...
البلم طيش فكرة ونزق إجباري للهروب
من مآسي الاضطهاد لسجن حرية آخر بأراده منفعلة
البلم صيد وفير للمهربين وثروة غير
شرعية لعبودية الإنسانية
البلم بكل سماته الدقيقة والمتقلبة
كائن حي يجسد معاناة كل مواطن عربي في خريفنا الحاضر .
أجمالي تفاصيل الرواية:-
_ اجتاحت تفاصيل الرواية متارع
إحساسي بشوق نهم تابعت ..تفاعلت.. وتأثرت لأنها بسرد رائع سلسل الوقائع .. حقيقي
الأحداث , عايشت الشخوص وهربت معهم تسلقت الجبال واجتزت الموانئ وهربت من منافذ
الحدود بلهاثهم وخوفهم وتعبهم وعونهم ,مما يعني مدى جمال السرد الأخاذ الذي سرى في
الروح مسرى النسيم السلس وتلك براعة الكاتب وهيمنته بخلق شغف للمتلقي واسترساله
للمتابعة ...
_ كما أجاد الكاتب بتعريفنا على كل
شخصية وهمومها بل معاناتها والوقوف على سيكولوجية قرار كل شخصية بأسباب الرحيل عن
وطنه وجذب القارئ بالتعايش مع رحلتهم برؤاه القارئة ...
_ رواية مؤثرة بواقعها المرير
واصلت بدموعي حتى احسست بألم كل شخص وخاصة لحظة هروبهم من الوطن عبر منافذ الحدود
,انهمرت دموعي وشهقت انفاسي فتركت القراءة لأستريح ثم عاودت المتعة وتنفست الصعداء
حين وصلوا لبر الأمان لكن أي أمان سأشير إليه لاحقا , وبعد خوف وتعب وإرهاق مفزع
بغربة ذليلة احتسيتها معهم بمشارب الأسف ومشارف الوجع تقظ نفير تساؤلي وحجم
المعاناة يكبر وضياع يتسع أذ لا أمل تحقق ولا سكن مناسب ولا حياة عادية استقبلتهم
...
_ راودني التعب كما التفعهم ,تنقلت
بإحساسي المجهد ونبض اللهفة من خوفي عليهم وبنات قلبي يحدثوني بما لا يحمد عقباه ,
ربي ما الخاتمة ؟ تواصلت بانفعال قارئ استمتع واحب الرواية وكأني واحدة منهم
,والتساؤل يضنيني لما الإنسانية معذبة في أوطاننا منبوذة مهمشة, لما الغربة تأكل
أجسادنا والإهمال نصيبنا , ونرى الغرباء ينهبوا خيراتنا طامعين حتى بأرواحنا فلا
أمان ولا استقرار بل يحيطنا التشتت تعمنا الفوضى وصخب الحرب يعوم فوق رؤوسنا , وطن
نمنحه ولا يمنحنا .. نشتاقه ويبعدنا ..نتمسك به فيلفظنا, متعطش لدمائنا دوما لما
!؟ هي الحقيقة لا مفر منها ...
_ كُتِبت الرواية بشكل حديث احتوت
على صور شعرية جذابة بتعابير فنية كما ذكر بعض الأقوال قبل بداية الرواية وببساطة
المعنى مشعة بالأحاسيس الوجدانية شخصت الهواجس الإنسانية بشمول الحواس ورصدت
بإتقان موضوع المأساة في سياق سرد متماسك البنية , جسده الراوي بتنظيم الأحداث
بوعي حرفي بترسيمات تقنية للسرد والعبارات , فأرخ حقبة تاريخية مهمة اجتماعية
وسياسية ونفسية واقتصادية اقتصت من عمر الكثير من الشعوب تعتبر بصمة حياة لكثير من
اوطاننا العربية ...
_ يسرد الراوي على لسان أحد شخوصه
والذي تجعله راويا للأحداث ومشاركا بها وهي صيغة تقليدية بقدرة متميزة بالتحرك ما بين
الأشخاص والتنقل بالزمان والمكان بمنظور الفلاش باك وهي امكانية متاحة للراوي
يسلكها بإمكانياته التقنية بامتداد الماضي ويعاود لحدث الحاضر له ولبعض الشخصيات ,
مما اضاف طابعا واقعيا لحركة الشخص واستدراك تفكيره فكانت العلاقة وطيدة بين
الكاتب والراوي والمتلقي أذ لم تحل عقدة التواصل بخاصية تعبيرية واسلوبية سردية
متكاملة...
_ كانت عناوين الفصول موازية
للعنوان الرئيسي خلقت شوقا آخر وجمال باذخ بشاعرية العبارة تشي علاماتها بموقف
مؤثر أثاره الكاتب لاستفزاز القارئ وشده للمتابعة فتترابط مع نسجة السرد وتفيض
الدهشة بأطر عديدة التوقع وكل فصل بانتقالة معينة تخلق التجديد لمرحلة اخرى ووصف
مثير للاهتمام يخلق واقعية الحدث ببؤرة موحدة تركزت على فحوى الفكرة فنكون أحدى
شخوص الكاتب ...
_ خاتمة الرواية ارتبطت بالعنوان
بشكل موثق ليؤكد أهمية الرجوع لسمة العنوان وجذب انتباهنا لموجز إيحاءاته بنغمته
الملهمة لقصد الاختيار وقد وفق الكاتب بإيقاع تكراره ليعني اتساقه الأسلوبي بتدرج
معزز الخصائص بمستواه التعبيري والسردي
وإن الرواية جديرة بالقراءة لما
فيها من موضوع مهم ينصب في صدع أمتنا العربية اضافة لأسلوبها الشيق وفنية تعبير
لكثير من الصور الحسية الجميلة بتشكيل رائع جدا متماسك الانسياب وتعتبر جزء من
تاريخنا الحاضر ومعاناة الإنسانية من حروب واضطرابات لا طائل لها ...
إن الأدب مرآة التاريخ، لايسطره سوى كاتب عاش مدركا مرارة
وحرارة أحداث واقعه، استحضر بما أوتي من بصيرة كشف ما غاب عن أذهان الكثيرين من
سياسات ومؤامرات، ملمّا بنبض نجاحات وانتصارات أمته وإخفاقاتها، يعاني عثرات أصابت
أبناء وطنه وجيله.
يقول مُنظِّر الحروب اللواء كارل
فون كلاوفيتز بسلاح فرسان بروسيا إبّان الحروب النابليونية : (الحرب امتداد
للسياسة)، كما تعد في دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ذات نتائج كارثية.
وللأدب العالمي ساحات ومساحات
واسعة شاسعة تناولت الحديث عن الحروب والصراعات على مدى التاريخ، روايات خالدة
تحكي قصص كفاحات الشعوب ضد أعدائها الغاصبين، منذ تناول هوميروس حروب طروادة في (
الإلياذة والأوديسة) وحتى الآن، نذكر على سبيل المثال لا الحصر رواية (الحرب
والسلام) للكاتب الروسي العظيم تولستوي تصف الواقع إبّان احتلال نابليون لروسيا
القيصيرية، والعديد من الروايات الملحمية أو السير الذاتية، حكت عن الحرب العالمية
الثانية أكثر حروب العالم دموية في العصر الحديث، تناولت معاناه البشر نتيجة أطماع
السياسات، خلال حروب ماجنة طاحنة ماجنت على البشرية إلا الخراب والدمار والقتل
والتعذيب والتشرد.
ولا ننسى العظيم حنا مينا الروائي
السوري في روايته ( الشراع والعاصفة)، ترجمها للروسية فلاديمير شاجال، وجاءت
بالمرتبة الرابعة عشر ضمن أكثر من مائة رواية عربية.
ولنا أن نذكر بفخرإلى جانب هؤلاء
الروائي السوري الأستاذ / محمد تركي الدعفيس، في روايته (البلم) إذ تجلت فيها روح
الأديب المتميز، الذي عايش أهوال جيل جديد تماما من الحروب، جنت على وطنه الدمار،
حرب عجيبة غريبة غير تقليدية تعددت فيها الأطراف، فمنذ حرب العراق السافرة، وأقول
السافرة لأن الغرب وإسرائيل أماط اللثام، وأصبح ظاهرا للعيان، لكنه احتاط لما حدث
عندما انكشف أمره وبان للعالم وجهه القبيح، فاستتر وتخفى في سوريا بعدوان جديد
وشكل جديد أيضا لم يحدث من قبل.
وكما كان البحر حديث حنا مينا،
وعاشقه بل توأمه، يحكي عن الانتصار على الطبيعة القاسية؛ معبرا عن الإرادة البشرية
وروح المغامرة، فنحن بصدد رواية تحكي عن هجرة شعب كابد قسوة الحرب وعبثها ومجونها
وجنونها، ركب البحر عنوة، علّه يجد في وحشية أعماقه وقاتم زرقته وزمجرة وزئير
أمواجه؛ أملا يأخذ بأيديهم نحو الخلاص!
2( البلم )
رواية قصيرة ، يمكن تصنيفها بما
يسمى بالأدب التاريخي، لحرفية وتمكن كاتبها من أدواته في تناول الأحداث من قلب
الواقع، لتسجيل فترة من تاريخ شعوبنا العربية التي قاست ولازالت تعاني نتائج أهوال
حرب طاحنة، وتحكي عمن فرّوا للنجاة من حرب غبية لم تفرّق بين مدفع ومسجد أوكنيسة،
بين صاروخ وبستان أومنزل، بين محارب ومسالم، لم ترحم طفلا ولا شيخا ولا امرأة،
كثرت فيها الفئات المتصارعة، تقاتل فيها الأخوة حيث تعددت مشاربهم وأهواءهم!
رواية تتناول أحداث مرت بمن حاولوا
الفرار من حرب بربرية، فرضتهاعنوة أيادي تلك السياسات القذرة للصهيونية والغرب،
متسترة خلف الشعارات والنداءات المكشوفة كذبا وزيفا وخداعا، بحكايت خيالية بعيدة
كل البعد عن أرض الواقع عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، دعوات ونداءات
لاتحمل إلا مسمّياتها مجردة من كل معانيها، بيّنت تربصات مبيّتة لأيديولوجيات
ناصبت عالمنا العربي والإسلامي العداء، فأخذت تنثر بذور الفرقة في صفوفه تصنع له
إسلاما جديدا، يخدم مصالحها، حين يذهب أبناؤه شيعا وطوائفا يقاتل بعضهم بعضا بأسهم
بينهم شديد!
رواية عايشت وقائع وأحداث رحلة شعب
ترك داره وكل ما يملك وراء ظهره محاولا النجاة ، مصورا محاولات شخوصه الحصول على
أبسط الاحتياجات الضرورية لأسباب العيش بسلام، تكابد مأساة ضياعها وهي تذوى من بين
يديه أدراج الرياح، نتاج حروب مفتعلة مصنوعة (سيناريوهاتها) على أيدي أجهزة
المخابرات الغربية بإتقان، فبات منال الاستقرار عنّا بعيداً وأصبحنا كألف كرة جولف
شاردة في كل اتجاه، الهجرة إلى شتى البقاع هي السبيل الوحيد أمامها للخلاص، أو
ماسماها المبدع الأستاذ محمد الدعفيس في روايته ب (رحلة الهروب).
3
نعم هي رحلة الهروب أو رحلة
الشتات، مأساة واقعنا العربي، وصمة عار في جبين الإنسانية، برع في رسم شخوصها
عناصرا للوحة زيتية سماؤها ملبدة بغيوم ونوء وسيلتهم للنجاة قشّة (البلم) يحملهم
في خضمّ يتربص بهم، وكأنهم الفارين مستجيرين من الرمضاء بالنار، حال لا يقل بلاء
عما كانوا فيه وعايشوه وكابدوه.
نجح إلى حد كبير الروائي السوري
الكبير الأستاذ محمد الدعفيس أن يثير فينا ما آلت إليه أمتنا اليوم، ويبين تعريضا
دون إفصاح أن ما حدث في سوريا هو الحال في العراق واليمن وليبيا نتاج ما يحاك لنا
من دسائس وقعنا ضحيتها وضاعت منا أوطاننا فلجأنا للهروب، ضاعت منا لجهلنا وصلفنا
وتعنتنا وصار مآلنا لما نحن فيه من بؤس فرقة وشتات، كيف صرنا ضحية مكر حيك بليل ؟
فغدونا كما سوّل إبليس لقابيل ( قاتل ربع سكان العالم ) قتل أخيه هابيل، لكن إبليس
اليوم ترك المهمة لأعوانه من بني آدم، فقام أعداء الشعوب بالنفخ في الكير ليقتتل
الإخوة، ويضيع منا الحب أسمى معاني الحياة وسر أمانها وسلامتها.
"منذ الصغر وأنا أصل لما أريد
لكنني أصل وأنا منهك... بالقدر الذي يجعلني لا أفرح... أنا أريد أن أ صل كي
أستريح... فقط أستريح".
« أرنست همنجواي»
ابتدأت الرواية ((البلم )) بوصول
المهاجرون إلى إزمير، نقطة البدء لاستكمال الهجرة، تصف لنا بعدسة مصور سينمائي
محترف ذلك التكدس الذي بدت عليه البلدة حيث تجمعوا بها، وصفا مختصرا يقتصر على
الدخول مباشرة لبيان القضية ( رحيل شعب) عن وطنه، وقد يؤخذ على الرواية تقصيرها في
وصف الأمكنة التي مرت بها شخوصها، لكني ألتمس العذر لانشغال الكاتب بتصوير حال
الشخوص لا المكان، مهتما بالوصف بدقة حال الرّحل أكثر من الشوارع والميادين، يصف
إزمير وقد اصطبغت شوارعها ومقاهيها بروائح الترحال فبدت وكأنها صالة (ترانزيت)
كبرى، غاية ما تتمناه النفس فيها ( فراشا من كرتون ) كي تستريح!
اختار ذلك عنوان فصلها الأول فكان
موفقا لاختزال الكثير من التفاصيل، كما يحسب له كذلك توفيقه في اختيار عناوين باقي
الفصول.
وكنقطة انطلاق نحو المجهول، جرت
مساومات وحوارات مع المهربين لركوب البحر نحو المزيد من الاغتراب والابتعاد عن
الوطن، وبيان تعرضهم لتجار الحروب، بسرد الواعي المتفهم لكل ما يجري بهم، يخبرنا
أن رحيلهم جاء موافقا أمر ربهم لأرضه الواسعة، علهم يجدوا فيها مراغما كثيرة
وسعة...
5
نوستالجيا الحياة
لكنني وقد استوقفني كثيرا تنامي
التفاعل الدرامي فيما قبيل الفصلين الأخيرين، ليتناول جانبا آخر وقضية أزلية، فقد
أدركت ماهو أبعد من ذلك بكثير، وضرب الراوي على وتر هو لبّ الرواية وهدفها الأسمى
وما يميّزها عن غيرها من الروايات، الافصاح عن شخصيتين محوريتين ( حياة ونجاح) هما
الرمز الأساسي لبيان القضية الأزلية لعلاقة الإنسان وحبه الأرض، وتعلقه بالوطن،
وارتباطه بالمصير، (لولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
نوستالجيا الحياة، لفظة استعرتها
لأنها تنطوي على أجواء نفسية تدل على الحنين الشديد للوطن، أو الرغبة الجامحة في
العودة ورؤية مكان له ذكرى خاصة، أو مرض عصيّ يرتبط بالحب الشديد للمكان/ الوطن في
ذهن الغريب.
كثيرا ما نغامر نحو الفاظ نستعيرها
لنراود رواية عن دلالتها وما تهدف اليه، فتجولت خلالها حاملا فكرتها للحديث عن
رؤيا انقاد لها انطباعي.
6
من رحم تلك المعاناة يتجلى محمد
الدعفيس الراوي في العزف على وتر الخلاص، وينبثق سيل العاطفة جياشا نحو الحب، نعم
هي نوستالجيا الحياة، طريق المنجاة الوحيد بعيدا عما رآه جليا فيما أدت إليه
ترّهات الجهل وهمجية الفكر وسادية رؤية الدماء والتوحش أو مما لاقاه من أهوال رحلة
الهروب.
يمهد الكاتب بذكر (حياة) رمزا
للوطن فهو حياة الروح ومجرى الدم لا يغادرنا ولو دنت النهاية وفي أحلك الظروف، ولا
تبتعد ذكراه عنّا، خالدا يملأ قلوبنا مهما نأت بأجسادنا المسافات.
فيتغنى بشاعرية مرهفة وردية
الكلمات ( حياة كانت ترقص بثوب طويل، ترسل ذراعيها جانبا كطائر يهمّ بالتحليق،
وتترك للريح أن تغازل ضفائرها، وتبدأ قدماها حركة تبادلية، فتقدم اليمنى تارة على
اليسرى، وتفعل العكس تارة أخرى، وحين تنحني ويرسم ذراعها قوسا مثل قمر في لحظة
الولادة، تبدو كأنها تحصد سنابل من شوق تنثرها عبر الأثير، تودعها كل الحب الذي
عَرَفَته يوماً، وتتركها للريح تأخذها حيث تشتهي )
لقد كان عليه أن يرحل لأثينا، لا يستسلم
لليأس كياسر وعمار وكل من سكن الكامب، فانطلق مرتديا ثياب الحنين الى كل رفاق رحلته،
يرمز بهم الى أهله وأصحابه من بني وطنه، من تركهم هناك بالأرض الأم، انطلق وفيض من
الحزن والأنين ينبثق منه في شاعرية أخاذة حين يقول :
(كانت مغادرة لا تحتاج أكثر من
العزيمة والرغبة، وقبل أن يبدأ النهار رحلة نزاع جديد مع العتمة على الفضاءات
المحيطة بي، كنت قد عزمت على تركه خلفي، دون أن أقطع الأواصر التي تربطني به، فقد
كنت سأشتاق الى ساكنيه كأنهم بعض مني، وأنني سأحتاج للعودة إليه بين الفينة
والأخرى)
7
تظهر موهبة الرسم فجأة على مقهى
قرب ميدان مونسترياكي، يصف لنا شوارعها الحجرية المتعرجة وصفا يذكرني بأجمل أيام
قضيتها بأثينا في أواسط الثمانينات حين كانت ضمن رحلاتي أيام كنت طالبا بكلية
الفنون أثناء العطلة الصيفية، وكانت (حياة) حبه الأول وروحه المعلقة بين السماء
والأرض، هي أولى لوحاته، فاتحة خير له على أنغام زوربا مستمسكا بالفرح متناسيا آلامه،
امتهن الرسم مستمتعا بملامح البشر عله يجد ضالته وغريزة الفنان في داخله علّه
يتسلى بوجوه من فارقهم هناك (فارا من حربه) كما قال له عمار لكنه يرى أنه يحاول
(أن يفر من سره) على حد قوله!
ثم يعاود حنينه للبحر عائدا ليصف
ليل أثينا الماجن، ليجد (نجاح) في طريقه صدفة فينجح في انتشالها من حافة الهاوية،
إنها وطنه الجريح يعاني مرارة الغربة وذل الاحتياج الى بنيه يوشك على السقوط !
حياة هناك ونجاح هنا، وجهان لعملة
واحدة هي الوطن!
(حياة) وطني لو شغلت بالخلد عنه
... نازعتني إليه في الخلد نفسي
(نجاح) صورة ذلك الوطن الجريح الذي
تكالب الأكلة على قصعته، راح في عقله الباطن يحاول دفع الضيم عنه في صورة نجاح(
كانت أصابعي تضغط على ذراعها تريد أن تخنق كل آثامها....).
تقوده حالة الحب ليصادق البحر وينظر
له بعيون غير تلك التي تعودت معاداته (مغرٍ هذا البحر، لا يتخلى أبدا عن غوايته للآخرين،
يشجعهم فيلقون إليه أسرارهم دون مواراة أو خشية، ثم يمضون كأنهم تطهروا من آثامهم،
بعدما أثقلوه بها...)
وينجح في توفير وظيفة تغنيها عن
السقوط، فالوطن شغله الشاغل، ولازالت قضية ما يعانيه الوطن هناك عالقة بباله لا تفارقه.
ما فشل فيه مع حياة، مهاجر فارا بفشله،
يعاود الكرّة يملؤه الأمل في الحياة ليعوّض ما فاته، ويكمل من جديد نائيا عن (حافة
الهاوية) تملؤه ( رغبة شاهقة ) يبحث عن ( المرافئ مشتهاة) يكتب تقريره موضحا قضيته
بجلاء مفصحا عن بؤرة ومحور الرواية :
( يموت الحب إن لم نقاتل لأجله،
ويصبح مجرد حكاية من الماضي حين نصير حيادين تجاهه.. وأنا لم أقاتل، بل أمعنت في
الهروب، هل سمعت عن حب يحيا بالهروب؟!..لا يكفي أن نتفرج على الحب، علينا أن
نعيشه، وأن نحميه وندافع عنه، ولا أظنني فعلت )